صار ألفريد فيما بعدُ قائداً لمجموعةٍ تدعى الجّسْر."Die Bruke " الّتي غطـَّت تعاليمُها معظم أجزاء القارّة الأوروبية فيما بعد الحرب وإنخرط فيها الآلافُ من الشّباب ، ولكن مع التحسّن الذي طرأ على أداء الاقتصاد الألمانيّ بدأ الشّبابُ الشّغوفون بالمبادئ ال
صار ألفريد فيما بعدُ قائداً لمجموعةٍ تدعى الجّسْر."Die Bruke " الّتي غطـَّت تعاليمُها معظم أجزاء القارّة الأوروبية فيما بعد الحرب وإنخرط فيها الآلافُ من الشّباب ، ولكن مع التحسّن الذي طرأ على أداء الاقتصاد الألمانيّ بدأ الشّبابُ الشّغوفون بالمبادئ المثاليّة يُوجّهونَ إهتمامهم صوْب جني المال وإنحسرتْ حركة الجسر كثيراً وباتت تقتصِرُ على بضعة شبّانٍ يجتمعون بمنزل الفريد في لندن . طلبَ إليّ رينولدز إستعراض مهاراتي الخطابيّة بشكلٍ مباشر لذا ركبْنا الحافلة بإتّجاه الهايدبارك ومضيْتُ على الفور أخطب هناك في جمْعٍ غفير من الحُضور عن المبادئ المقدّسة للفوضويّة ، وبعد نصف ساعةٍ من الكلام المُباشر والمُناظرة أقفلْتُ باب المناقشات وتوجّهْتُ صوْب الفريد فوجدْتُهُ في غاية الإنشراح واقترح فوراً أن أكون أحد قادة حركة الجّسر في إنكلترا ، ثمّ إصطحبَني إلى شقّته وأعدَّ لي عشاءً فاخراً - فقد كان طبّاخاً رائعاً أيضاً - وبعد العشاء أكملنا سهرتَنا بالحديث عن كلّ من ثوماس مان وهيرمان هسّه .
إقترح عليّ رينولدز حضور بعض إجتماعات جماعة الجّسر ولم أرَ ضيْراً في ذلك طالما أنّ مبادئ الفوضويّة كانت متوافقةً إلى حدّ كبير مع مبادئ تلك الحركة ، وعندما حضرْتُ أوّل إجتماعٍ لي في الحركة وجدْتُ العشرين شابّاً مع شابّة رائعة الجّمال وقد إنحشروا كلهم في غرفة رينولدز ، وكان من عادة رينولدز أن يبدأ الإجتماع المسائيّ بعزفِ بعض الموسيقى وهناك عرفْتُ بعضاً من أعظم المقطوعات الموسيقيّة : كونشرتو البيانو الأولى العظيمةُ لِـ ( برامز) ، وَالسمفونيّة الرومانتيكيّة لِـ ( بروكنر ) ، والسمفونيّة التّاسعة لِـ ( ماهلر) ، وبعد الإنتهاء من سماع الموسيقى مضيْنا في إستراحةٍ لتناول القهوة والبسكويت ، ثمّ راح رينولدز بعدها يتحدّثُ عن مبادئ العقل والتّسامح وفتح في ختام حديثه باب المناقشة ، وهنا بدأتُ أختبرُ أولى شكوكي الحادّة تجاه الموضوع بأكمله : فقد كنتُ بكلّ جوارحي ميّالاً إلى العقل والتّسامح ، ولكن هل كان بإستطاعة رينولدز فهمُ نوع الدّوافع التي يمكنُ أن تدفع أشخاصاً مثل ( فلاكس هاليداي ) أو ( إرمغارد هاكمان ) للبحث الدؤوب عن المعنى والمُغامرة وسْط حضارةٍ لا توفّرُ إحساساً بوجودِ غايةٍ ما في الحياة ؟
كان الفريد مُعادياً للدين بشدّة وكان لا يتردّدُ في كلّ الأحوال عن وصف الكهنة بكونهم ( غرباناً سوداء ) ، ولكن هل أحسّ ألفريد بطبيعة الدّوافع التي حفـَّزت أشخاصاً دينيّين لتجرّع مُرّ العذاب مثلما حصل مع جورج فوكس George Fox) قائد مسيحيّ بروتستانتيّ أنشأ جماعة الأصدقاء الدينيّة " الكويكرز " Quakers في القرن السّابع عشر ، المترجمة ) أو يوحنّا بُنيان( John Bunya وردت الإشارة إليه في فصل الحوار الموسّع مع كولن ويلسون ، المُترجمة )؟ ورأيْتُ في إستبعاد رينولدز لهكذا رجالٍ مميّزين لمحْض صفتهم الدينيّة عملاً نزِقاً يفتقِدُ الذكاء والبصيرة وكان من شأن هؤلاء جعلُ رينولدز يبدو بمظهر العقلانيّ السّطحيّ الأخرق. وعندما ناقشْتُ هذا الأمر مع رينولدز في حواراتنا الشخصيّة المنفردة أوّلاً ثمّ في إجتماعات جماعة الجّسر لاحقاً بدا علْيه الإمتعاضُ المُفرط وطلب مني الكفّ عن حضور الإجتماعات وإنْ كنتُ على الدّوام ضيفاً مُرحّباً به وقت العشاء ، ولكن لابدّ لي من الإعتراف بفضْلِ ألفريد في تعريفي بموسيقى بيروالد ، وتعلمْتُ منه عشق موسيقى برامز ، وعلمْتُ بأمر إنجاز بيتهوفن المسمّى ( مطرقة البيانو Hammerklavier ) وكذلك الرّباعيّة الأولى لِـ ( راسوموفسكي Rasoumovsky ).
كانت الشّابّة الرّائعة الجمال التي أشرْتُ إليْها سابقاً زوجةً لشابّ جميل الطّلعة يُدعى ( ستيوارت هولرويد ) ولعبَ دوراً مهمّاً للغاية - كما سأبيِّنُ في فصلٍ لاحق - في تحفيزي لكتابة ( الّلامنتمي ) ، وقدّمْتُ جوي إلى مجموعة الجّسر يوماً ما وأعجِبَ ألفريد لكوْنِها حاصِلةً على شهادةٍ جامعيّة وهو الأمرُ الذي كان نادراً مع الفتيات تلك الأيّام ، وحصل أن إصطحبَت جوي فلاكس هاليداي عندما كنتُ مُنشغِلاً بالعمل مساء أحد الأيّام ، ولسْتُ في حاجةٍ إلى وصْفِ أجواء الإستياء الّتي تسبّبَ بها فلاكس بين الحُضور بعدما تحدّثَ مُمجّداً الحرب والنـَّزعة العسكريّة .
كان يتوجّبُ عليّ بموجبِ كلّ المعايير أن أعيش كصعلوكٍ متشرّد : إذ لمْ أكن قد انتظمْتُ في أداء عملٍ لمدّة سنة كاملة كما كنتُ أعيشُ بلا منزلٍ يؤويني للتملـّص من دفعِ النّفقة القانونيّة لزوجتي السّابقة وللإيفاء بمتطلبات طعامي فحسبُ ، ولكنّي في كلّ الأحوال كنتُ لا أزالُ أحتفظُ بالمزاج الذّاتيّ - الذي كان سمة طفولتي - والذي تعبّرُ عنه رغبتي اللامحدودة في إمتلاك حيّز يخصّني حيثُ يمكنُني العيشُ فيه بمُفردي مع أكوامٍ من الكُتب ، والحقُّ أنّني كرهْتُ كثيراً نومي خارج سقفٍ يأويني كما أضجرَني إفتقادي للنوم العميق إذ كنتُ أخافُ دوماً من إمكانيّة إنقضاض أحد المُتشرّدين عليّ وأنا أغط ُّ في نومٍ عميق ، أو أن يوقظني شرطيٌّ ليأمرَني بالإبتعاد عن محيط لندن ( وحصل بالفعل أن أخبرَني شرطيٌّ يوماً بأنّ من غير الجّائز حسب القوانين المرعيّة في إنكلترا أن ينام فردٌ دونما سقفٍ فوق رأسه ) .
كنتُ أستيقِظُ صباحَ كلّ يومٍ لأجد الشّمس تسطعُ فوق رأسي ، والسّماء زرقاءٌ وصافية ، وحديقة منطقة هيث خالية من المارّة ، وربّما كان لهذا المشهد أن يكون شعريّاً لي لو كنتُ في وضعٍ آخر ولكنّي لم أكن آنذاك قادراً على إبداء الحماسة المطلوبة بسبب رؤيتي للأمور من خلال غيمةٍ مضبّبة من الإجهاد العقليّ والجسديّ .
عندما كنتُ أداوِمُ على القراءة في قاعة المُطالعة بالمُتحف البريطانيّ لم يكنْ ممكناً إغفالُ مُديرها الروائي أنغوس ويلسون Angus Wilson : كان للرجُلِ شعرٌ أشيب يمتدُّ من فوق جبهته بِإتجاه الخلف ، وأنفٌ دقيقُ الملامح ، وصوتٌ ذو نبرةٍ عالية مميّزة تُرغِمُ كلّ مَنْ في القاعة إلى الإصغاء إليْه وهو يتحدّثُ عبْر الهاتف ويقولُ أشياء مثل " هل يمكِنُني الحديثُ مع جون غيلغود ؟ ،،، أوووه ، هلو جون ، هذا أنغوس يتحدّثُ معك ،،،،، " .
نُشِرَت رواية أنغوس ويلسون ( الشّوكران وما بعدَهُ Hemlock and Beyond ) عام 1952 عندما كنتُ أُقيمُ مع بيتي في نورث فينكلي ، وأطرى حينها المُلحق الأدبي لصحيفة التايمز Times Literary Supplement على الرّواية كثيراً وَوصفها بكوْنِها واحدةً من أكثر الرّوايات براعةً منذ عهد روايات أوسكار وايلد، وهو الأمر الذي دفعَني إلى التعجيل بطَلب شرائها من احدى المكتبات ، وبعدَما قرأتُها وجدْتُها مُخيّبةً لي ولم أجد فيها ما يماثِلُ أعمال أوسكار وايلد ، وذكّرتْني الرّوايةُ على الفور - بنبرة السّخريّة المريرة الطّاغية عليْها - بعمل ألدوس هكسلي نقطة بمقابل نقطة( Point Counterpoint ) كان أنغوس ويلسون هو الكاتبُ الوحيدُ ذو الأعمال المنشورة الّذي أراه بعينيَّ في حياتي وعندما رأيْتهُ لأوّل مرّة رحْتُ أتفحّصُهُ بدهشةٍ عجيبة! وحصلَ ذات يومٍ أن أمضيْتُ نصف ساعةٍ وأنا أبحثُ عن مقالةٍ كان إليوت كتبَها بشأن رواية يوليسيز ولم أعثر عليْها وعندها طلبْتُ معونة أنغوس ، وجاءني الرّجلُ فعلاً بالكتاب الذي يحتوي على مقالة إليوت بعد أن أمضى ساعات الصّباح كلّها وهو يبحثُ بدأبٍ عنها بين أكداس القوائم ، وتبادلْنا حينها حواراً طويلاً أخبرْته خلالهُ أنّني منغمِسٌ في كتابة رواية فعلـَّقَ قائلاً: إنّ هذا الأمر يسرُّهُ وسيكونُ سعيداً بإطلاع ناشريه عليْها لو أنّها نالت إعجابِهُ بالفعل ( أعلمُ الآن أنّ مثل هذا الأمر لا يكونُ جدّيّاً في أغلب الأحوال ، إذ سبق أن قلت ذات الأمر للعديد من المؤلفين الشباب ، وأرى أنّ الأمر لا ينبغي له أن يُؤخذ على محْمل الجدّ أبداً ) ، ورأيْتُ أنغوس بعد ذلك بضع مرّات ولم نتبادلْ خلالَها سوى كلماتٍ قليلة.
اقتنصْتُ فرصة أيّام القراءة الثمينة المُتاحةِ لي في المُتحف البريطانيّ بقراءة مبادئ الوجوديّة ، وكنتُ اكتشفتُ عمل روبرت بريتال ( أنثولوجيا كيركيغارد ) في مكتبة هولبورن العامّة ولكنّي كنتُ أعلَمُ القليل للغاية بشأن سارتر وكامو، لذا مضيْتُ في قراءةٍ مُتتابعةٍ سريعةٍ لسلسلة أعمال : كتاب هيلموت كون Helmut Kuhn ( لقاءٌ مع العدم Encounter with Existentialism ) وَكتاب غيودو روغيرو Guido Ruggiero ( الوجوديّة Existentialism ) وكان هجوماً كاسحاً على الوجوديّة ، وَكتابُ بلاكهام Blackham ( ستة مُفكّرين وُجوديّين Six Existentialist Thinkers) ، وكتابُ أيريس مردوخ الصّغير الرائع عن سارتر ( يُشيرُ ويلسون هنا إلى كتاب " سارتر : العقلانيُّ الرّومانتيكيّ Sartre : Romantic Rationalist " المنشور عام 1953 ، المُترجمة ) ، وَكتاب هايدغر Heidegger ( الوجود و العدم Existence and Nothingnes ) ، وكِتابَيْ سارتر ( الغثيان Nausea ) وَ ( عصرُ العقْل The Age of Reason ) ، وكتبْتث حينها مقالةً عن الوجوديّة لحساب مجلةٍ تُدعى ( Intimate Review ) التي أصْدرَها صديقٌ لي من سوهو يدعى ( جون ريتي ) ، وسرعان ما أدركْتُ أنّني كنتُ وجوديّاً على الدّوام من غير أيّة معرفةٍ مسبّقةٍ لي بالأمر فقد كان سارتر وَهايدغر يستكْشِفان ذات المُعضلة الوجوديّة التي لطالما كتب عنها دوستويفسكي وَإليوت ، بل وحتى غراهام غرين : هل أنّ الوجود البشريّ ينطوي على ذلك القدر الهائل الذي يبدو عليهِ من القسوة وَالإفتقادِ إلى المعنى ؟ وانتهى كلٌّ من سارتر وهايدغر إلى أنّ الجواب هو " نعم " بينما كانت لديّ قناعةٌ عميقةٌ وغريزيّةٌ بأنّهما كانا مُخطِئيْن وكنتُ في موقِفي هذا مُتماهِياً مع غراهام غرين الذي وصفَ كيف لعبَ لعبة روليتٍ روسيّة بمسدّسٍ محشوٍّ وكيف إختبرَ - بعد أن أخطأهُ الموتُ المحقّقُ بمجرّد ضغطة زنادٍ واحدة - دفقةً عارمةً من البهجة وبأنّ الحياة جميلةٌ وباعثةٌ على الدّهشة إلى حدودٍ لا نهائيّة ، وكنتُ أنا ذاتي قد إختبرْتُ ذات الأمر بعد مُحاولَتي الإنتحار وأنا في السّادسة عشرة ، وحتى سارتر نفسهُ كان علـّق مرّة أنّه لم يشعرْ خلال حياته بالحرّيّة مثلما إختبرَها عندما كان في صفوف المقاومة الفرنسيّة، وحيثُ كان يعرفُ أنّهُ عُرضَةٌ للإعتقال أو الموْت في أّيّة لحظة.
إنّ هذا الأمرَ يؤكِّدُ بطريقةٍ حاسمة أنّ العائق الأعظم الّذي يُحجّمُ إمكانات الوجود البشريّ هو المستوى الواهِنُ للوعي البشريّ الذي يغرقُ فيه النّاسُ بعيشٍ بليدٍ يجعلُ منهم كائناتٍ شديدة الهشاشة ، وكان نوْمي داخل حقيبةٍ بمنطقةِ هامبستد هيث جعلَني أدركُ إمكانيّة زيادة دفق الحيويّة الّتي بداخلي وذلك لتحسُّبي الدّائم من إحتمال أن يهزّني شرطيٌّ وأنا غارقٌ في النّوم ليأمرَني بالمغادرة ، أو أن يُهاجمَني أحد المُتسكّعين الثّمالى! وكانت النّتيجةُ الحتميّة هي إختباري لحسٍّ فريد من نوعهِ بكوْني أكثر إمتلاءً بالحياة.