قطع أية ظاهرة عن جذورها التاريخية، هو قطع لعلمية التناول والتعليل. نحن عادة ننشغل بواقع الظاهرة وبمدى مواجهتنا لها. وهنا قد يكون الشاغل نفعياً مادياً أو يكون تزكية فكرية أو أننا نحتج به لتكون لنا كرامة حضور في مدى الظاهرة وحلولها. وحينما تختلط الحجج،
قطع أية ظاهرة عن جذورها التاريخية، هو قطع لعلمية التناول والتعليل. نحن عادة ننشغل بواقع الظاهرة وبمدى مواجهتنا لها. وهنا قد يكون الشاغل نفعياً مادياً أو يكون تزكية فكرية أو أننا نحتج به لتكون لنا كرامة حضور في مدى الظاهرة وحلولها. وحينما تختلط الحجج، او الاسباب، بمشاعر قومية او انتماءات ثقافية مرحلية، يزداد الضباب وتضيع الرؤية. أي تتوسع المسافة الفاصلة بشكل غبشي غير محدد المعالم وتصير جواً للبلاغات والحماسات وربما للولاءات الوطنية او الايمانية.
لكننا في زمن دور النشر العملاقة واتحادات الناشرين والاتفاقيات على خصوصيات الاسواق واشتراطاتها، لا تعود لنا حكمة في التنصل من متابعة الظاهرة تاريخياً. لأننا نحن هنا نتعامل مع مجتمع، مع مستهلكين لهم ارثهم المادي والسيكولوجي، مثلما مع احتياجات ثقافية جديدة.
اتساع الوعي الثقافي والحضور الاكاديمي الواسع بصفة تدريسيين وطلبة وباحثين فضلا عن عموم قراء المجتمعات ..، كل هذا يؤكد الحاجة للبحوث المستقصية للاساسيات القديمة المؤثرة في عملية نشر الكتاب اليوم. وحين نقول الكتاب، نقصد نوعي الكتاب، الرائج اليومي والكتاب الاساس في الدرس والتثقيف. أي الكتاب المدرسي والمصدر. وهنا أراني مضطراً للتنويه باننا ننتمي الى أمة شفاهية. الى شعوب كانت وماتزال الى درجة كبيرة تتعلم وتُعلِّم بالتداول الكلامي، سواءٌ في تاكيد المعلومة (الرواة) او ممارستها مهنةً (المجالس والتجمعات في حالات التكسّب والاسترضاء).
عدد المخطوطات بالنسبة لعدد السكان، وعموم الكتب من بعد، يؤكدان قلة هذا العدد ومحدوديته. لا مجال لمناقشة هذه المسألة حتى اذا استشهدنا باسطورة اصطباغ ماء دجلة بحبر الكتب الملقاة فيه. لا اظن عاقلاً يرتضي تهويلاً خرافياً مثل هذا. نعم، يمكن ان نرتضيه اذا كان مستنقعاً راكداً وليس نهراً شاسعاً مثل نهر دجلة في زمنه ..
مع ذلك، فالكتب مهما كان عددها، تبقى قليلة محصورة في مظان او خزانات محدودة وليست ابداً بالسعة التي يصورها لنا التاريخ. عموماً ما كان الناس يمتلكونه في بيوتهم قليل جداً وفي الغالب كان معدوماً، فكيف يمتلكون مكتبات شخصية؟ المشتغلون بالكتب وهواتها عددهم محدود مهما كبر وضمن هذا بيوتات العلماء والمتأدبين و ما في قصور الولاة والخلفاء. بيوت الشعب، بداة او متحضرين، تخلو من المكتبات الشخصية وغالبا ما تخلو من الكتب اطلاقاً.
نحن نتنمي الى موروث فقير مكتبياً رواية الاشعار ورواية الاخبار ورواية الحدث. واذا اعتُمِدَ الكتاب فنادراً ما يعتمد هذا الكتاب امتلاكا إلا عند المهتمين الاساسيين، علماء ونحاة واخباريين. حتى اذا وصلنا الى تيسّر الكتاب المطبوع اعتُمِد هنا استعارةً وقليلٌ ما وصلنا عن اعارة مخطوط.
بايجاز لم تصبح المكتبة الشخصية تقليداً ولم يتسع وجودها الا في اواخر عصر النهضة. وكانت بالنسبة لعالمنا العربي والاسلامي في بداياتها. وما تزال عموماً صفةً لبيوت العلماء والنحاة والفقهاء وقليل سواهم ولا ضرورة للغلو في أمر كهذا.
اتسعت الآن الحاجة الشخصية لامتلاك الكتاب. لكن هذه الحاجة واجهت صرامة جديدة. ذلك ان القارئ يتعذر عليه الحصول على الكتاب الذي يلامس صميم حاجته. ما يزال المتوافر هو الكتاب الديني "الرسمي" وليس كل التراث الفلسفي او الفقهي تلي ذلك كتب الشروح وما يتعلق بتاريخ الادب. هذا معناه اقل من ربع الثقافة. فما تزال الاجتهادات الفكرية صعبة ونادرة. ما تزال الكتب الجنسية نادرة او مفقودة ان لم تكن محرمة. ما تزال الكتب العقدية بين مسموح به وممنوع. واذا اضفنا الى ذلك اوضاع عموم الناس الاقتصادية، فهذا يعني ان نوعا من التحريم المباشر وغير المباشر يفرض سلطانه.
المسألة الأخرى ذات الصلة، ان كتّاب الفكر الجدد وكتّاب الاجتهاد الديني والذين يكتبون في قضايا المجتمع ومنها الكتب الجنسية، وهي من بين الكتب التي لها قراء واهميتهم واضحة في المبيع، هؤلاء جميعاً غالبا ما يكونون كتّاباً غير محليين. المحليون محكومة آفاقهم وتتولى التسلط عليهم سلطات مختلفة.
هذه الأمور وسواها تجعل المثقف، او من يريد الاطلاع والمعرفة، يبحث عن حاجته المعرفية والعاطفية والفكرية في الكتاب الاجنبي موضوعاً أو مترجماً.
اقدر جيداً ان ليس دائماً كل الروايات الاجنبية ذوات امتيازات نادرة. لكنها بالتأكيد تتمتع بحرية كشف اوسع كما ان الكاتب المحلي، مفكراً، لم يتسنَ له بعد مجال حر لطرح كل الشكوك والقناعات الفكرية والدينية وحتى الاجتماعية أحياناً. هو أولاً يخشى تبعاتها. ثانياً هناك من يوفر عليه الجهد والتبعات. والمؤلف الاجنبي عادةً اقل إثماً وتأثّماً من المحلي وإن طرحا الفكرة المستنكَرة نفسها.
وما دمنا في مجال الفكر، فثمة مسألة يتعذر تجاوزها. تلك هي مسألة الجندر. النساء العربيات، مثلاً صرن يقرأن لكنهن لا يمتلكن حرية القراءة العلنية. بعض الكتب محرمة عليهن وإذا تحدينَ، فيقرأنها سراً. وسراً تعني عدداً قليلاً من الكتب المباعة. فليس غريباً بعد هذا ان أياً من مكتباتنا العربية لا تتجاوز الكتب النسوية فيها الخمسين او الستين كتابا في افضل الاحوال. ان وراء هذه الضآلة خسارةً معرفية وخسارة في الحقل الطباعي، واذا طبع الكتاب فخسارة في عدد المبيع. فضلا عن ان فيها ترسيخاً لتابوات لازمت المجتمع منذ قرون.
نحن إذن، وبعد التقدم الحضاري الذي شهدته بلداننا وبعد اتساع دور النشر ودور الطباعة فضلا عن دور النشر الاجنبية الكبرى ذوات الفروع في القارات والتي هي أيضاً ترفد السوق الثقافي العربي بمطبوعاتها، وبعد التنوع الكبير في التخصصات المعرفية والفنية، نشهد اليوم دخول الاكاديميات كمنتج وكمستهلك. فبعض جامعات العالم لها مطابعها ولها مطبوعاتها في شتى ضروب المعرفة والآداب ولها دورياتها المتخصصة. نحن اذن بازاء فعل صناعي، تجاري ومعرفي كبير.
الايجابية الحاصلة من هذا التوسع هي أن العدد الكبير من نسخ المطبوع يقلل من كلفة النسخة الواحدة. وهذا سبب أضافي يزيد من حجم المبيع بالنسبة للدار النشر الاجنبية ويسهم في مشكلة جديدة بالنسبة لدار النشر الوطنية.
فالكتاب الاجنبي المتميز بحسن الطباعة والاخراج الفني وتعدد طبعاته، من شعبي ورقي Paperback الى غلاف صلب Hardcover وورق افضل، يعني المبيع في اكثر من اتجاه ولاكثر من مستوى اقتصادي ومعرفي. وهذا العدد الكبير من المطبوع يجعله كتابا مُشتَرى ويضمن ربحية عالية للدار المنتجة. كتابنا المحلي ذو الالف او الالفي نسخة وحتى ذو الثلاثة آلاف نسخة يعني كلفة انتاج عالية تقابلها نسبة مبيع ليست مجدية. بل يصبح الكتاب احياناً مكلفاً اكثر مما هو مربح والامر اسوأ اذا صحب ذلك تعذُّر التوزيع او حصل اعتراض رقابي مفاجئ على الكتاب. فالكتاب احياناً ملاحق حتى بعد صدوره باشهر!
اخذُ كل هذه الامور بالحسبان يجعلنا نفكر بطريقة ما لضمان ربحية المنتَج وضمان الفائدة المعرفية بانتشار الكتاب وتنظيم ونشر المطبوع في البلاد العربية. يمكن ان يكون، او يمكن ان نبلور، مخرجاً أو حلاً اذا استطعنا تذليل معوقات في هذا السبيل. فزيادة عدد المطبوع هدف أول لكتاب ارخص سعراً. وهدف أول أيضا لنشر المعرفة. مثلما هو ضمانة لربحية افضل لدار النشر من ثم تطورها.
لكننا هنا ايضا سنواجه الطامة العربية المزمنة. فهذه دولة تحرّم وتلك تحلّل وهذه تريد ان تحمي انظمتها من الثقافة الغربية (الفاسدة) ليظل معمِّراً فسادُها الاصيل. وتلك تسمح للجزء الأول من الكتاب وتلغي او تمنع جزءه الثاني. مع ذلك ثمة العديد من العنوانات يمكن الاتفاق عليها ولا اظن الطريق مغلقاً غلقاً ابدياً. لم يتوقف العقل البشري تماما بعد ويمكن الوصول الى نوع من الحلول. والا فليس معقولا ان تظل دور النشر تطبع الالف نسخة والالفين وتريد ان تربح ونريد الكتاب ارخص سعراً كما نريد ان ينشر بنجاح ونريد الثقافة ان تسود. ان في مشروع كذلك الذي ذكرناه انقاذ ثقافي للمجتمعات العربية وفيه افق توسعي مربح لدور النشر والزمن كفيل بالباقي.
لكننا وبعد هذه الاسباب، وأُخرى مما يخفى علينا، نظل نواجه الآفة الشفاهية الأولى التي تحدثنا عنها اول المقال. فالعديد من المثقفين ما يزالون يكتفون بما يسمعون او بما يتلقفون من موجزات الصحف عن هذا الكتاب أو ذاك ويؤسسون على هذه المقتطفات افكاراً وحوارات، تعود للصحيفة مقالاتٍ او افكاراً بعد بضعة أيام...