كان الرحالة يسجلون استغرابهم لعدم نهوض العراق، وبقاء ارضه الخصبة سيئة الزرع، غير مستغلة حتى بالحد الادنى المطلوب، وينقل مؤرخ بارز عن مزارع عراقي في منتصف القرن التاسع عشر، انه لم يكن مستعداً ليثابر ويكافح بما ينبغي، لإعمار الارض وزرعها، ويعلن بصراحة انه لم يقم بالجهد الكافي لزراعة محصول وفير، ولذلك سيتقبل ارباحا ضعيفة في نهاية الموسم. والمزارع يبرر فقدانه للحماسة، بحالة الريبة والشك التي تتملك معظم العاملين في الفلاحة، ازاء مصير الارض وعدم حسم ملكيتها. اذ لم تكن هناك قوانين مستقرة، ويصحو الناس احياناً على قرار او فرمان، يمنح ارض هذا لذاك، ويسلب حقل فلان لينقل ملكيته لعلان، رهناً بتبدل حال السياسة والملك، وشيوع الوان الظلم والحرب والسلم.
المؤرخون فسروا بذلك عدم نمو اقتصاد مستقر، وعدم ظهور دولة متوطدة الاركان، او مجتمع يشعر بالأمان، وراحوا يعبرون عن نمط الانتاج في العراق، بأنه "اقتصاد كفاف"، فانعدام الشعور بالامن يجعل رأس المال وخطط الناس للتطور، مجرد "مناورات تكتيكية" بلا مشاريع بعيدة المدى.
وبعد نحو ١٥٠ عاماً على تلك الاشارة، لانزال نواجه ادلة على اننا بقينا مرتهنين بكل اشكال الكفاف، فاقدين للحماس في الغالب، نحو تطوير المبادرة الى ما وراء ذلك. فالسياسة لدينا متثاقلة بطيئة، من طراز "زراعة الكفاف". ولدينا "تنمية كفاف" و"خدمات كفاف"!
التصالح بين الطوائف، مسار موجود ايضاً، لكنه لم يتطور الى اكثر من "مصالحة كفاف" لا تكفي لاستتباب متطلبات نجاحنا كأمة مفترضة او شعب مزعوم! حتى خطط الامن لدينا، ظلت لاعوام من "نموذج الكفاف" او "اسقاط الفرض" بالقناعة بالحد الادنى من رد الفعل، واعتياد ان نكون مهزومين، من داعش وأخواتها، حتى سقطت مدن كبيرة بيد العنف. ان عنصر الامن والمخابرات وقادة الجند، ظلوا يشبهون ذلك المزارع الذي يشك في "عائدية الحقل" فيقنع بنصر الكفاف، دون ان يدخر ما يتطلبه الاستعداد للمفاجآت، وتفاقم الموف حين قصر الساسة في تحصين الداخل ازاء الخارج، وحماية مقتضيات الحكمة من نتائج الطيش والحماقة.
وهكذا لم ينتج لنا تكتيك "الكفاف" سوى رصيد هش يمكن نسفه بأدنى تهديد، ووضع عالق او معلق، نعجز عن تصليحه وإصلاحه، ونبقى حائرين في تفسير ما آل اليه خرابنا.
وها نحن نطفئ الشمعة الثانية عشرة لاسقاط نظام صدام الذي فشل في ادارة العلاقة مع الخارج، ولم ينجح في فهم تحديات الداخل، وسقطت معه الدولة التي اختزلها في عصابة جاهلة، وقد قطعنا مسافة هذه الاعوام في الغالب، بالدماء والدموع، لكننا لازلنا غير منتبهين الى خطورة نموذج "الكفاف" الذي يبقي المشاكل عالقة كقنبلة موقوتة، انفجرت في حزيران الماضي، ويمكن ان تنفجر في اي شهر اخر، حتى لو نجح شبابنا في طرد داعش من اخر نقطة في بلادنا.
ان الشهور المقبلة ليست زمنا للمعارك وحسب، بل هي سلسلة اختبارات سياسية لم يسبق للنظام السياسي الجديد ان جربها، فتكريت التي تحررت تنتظر ان نطبق فيها صيغة سياسية وأمنية جديدة، ولو حكمنا تكريت كما كان يحكمها نوري المالكي فان الاحتقان الاجتماعي سينفجر في وجوهنا مجددا، ويضيع تضحيات احلى شبابنا. وقل مثل هذا عن باقي المدن التي ستتحرر، وسنكتشف ان اجراءات "الكفاف" المؤقتة وحبوبه المهدئة، لن تأتي باستقرار عميق.
والاختبار السياسي العسير ليس داخليا وحسب، فالعراك الاقليمي يتطلب حذرا بالغا، والخلاف الدولي حول ادارة ازمات العالم يتسع ويكبر، ونحن نريد ان نخلق استقرارا عراقيا وسط منطقة تشتعل وعالم يشهد تعديلا لحزمة من قواعد اللعبة، وهذه من اعسر المهام.
والتحدي الاقتصادي هو الاخر يشبه جبل الجليد الغاطس الذي يظهر بالتدريج على سطح البحر، وحين يتواصل نقص المال ستضيق خيارات السياسة وهوامش المناورة التي يتطلبها التصالح. بيد ان كل الامم الحية واجهت محناً من هذا العيار وبذلت اقصى الجهد في معالجتها، شرط ان لا نكون كفلاحي العراق في القرن التاسع عشر، الذين كانوا متشككين في عائدية الحقل ومتكاسلين عن الاستثمار الاقصى للفرص والموارد.
سياسات الكفاف العراقية
[post-views]
نشر في: 8 إبريل, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ياسين عبد الحافظ
انكم تلامسون الجرح يا اهل المدى،، شكرا ياسرمد لكن لا تنسى ابدا ابدا ان القناعة كنز لا يفنى حكمة ازلية وتكاد ان تكون الهية والتاريخ شاهد قبل ايام كنت اسمع للمشهدانى رءيس مجلس النواب السابق ردا على سؤال لاحدى الفضاءيات عن راءيه في التحالف الدولى فقال.لقد