بعد أن تيقّن من ضياع مدينته(البصرة) عمد السيد مصطفى كامل إلى استعادتها، لا بصورتها التي كانت عليها ذات يوم، إنما على شكل متحفٍ، نعم متحف، أسسه من ماله الخاص، وبجهده الشخصي، غير منتظر منَّةَ أحد من المسؤولين، فجلب له كل شاردة وواردة، من ماضي أهلها، وما كانوا يقتنون ويحتفظون به، من جميل وخالد وبهيِّ أيامهم، في خطوة يائسة أخرى لاستعادة تاريخ طويل، ومحاولة مجهولة لن تكون الاخيرة، لكنها، -مهما بلغت حماسة وإصرارا ومطاولة- لا يمكن لها أن تعيد له مدينته التي احبّها واخلص لها.
في قرية نائية، أسفل الخريطة، بأبي الخصيب، تدعى أبو كوصرة، يلتف حولها نهر صغير، من أعمال شط العرب، وسط غابة كثيفة من النخل راح ينقرض اليوم، ترك مرتضى كامل مباهج المدينة، حيث يقيم، وراح يفتش في القرى البصرية عن ضالته، يطرق الابواب، فيستقبله هذا ويصدّه ذاك، يبحث في ما تركه غيره، أواني نحاسية وأجهزة صوتية ومقتنيات منزلية، أبوابا وشبابيك قديمة سيوفا وخناجر، فضيات ونحاسيات ، سجادا وكتبا ومناهج دراسية واوراقا عثمانية، وما لا يعد من مستلات الماضي. وفي الدار مع البستان التي يملكها لم يفكر كامل بعقار، مسكن يتاجر به، يبيعه ويشتري غيره، كما يفعل غيره من الملاكين، إنما جعل من بيته متحفاً، أيّ، نعم متحفاً، وصيّرَ من الطابوق والجص والخشب الصندل الصُّلب، ومن الحديد المنخور على الشطآن، ومن صواري السفن المهزومة، من الشبابيك والأبواب القديمة التي اشتراها مكانا سيخلد فيه أوهامنا، في مدينة نسكنها ولا نسكنها، معا، يقال لها البصرة.
ذات يوم، طرق السيد مرتضى كامل باب أحد البيوت القديمة بأبي الخصيب، فخرج لها صاحب البيت ظانا أنَّ ضيفاً طرقه، أو أن أحد اقربائه سأل عنه، لكنه وبحياء العارف سأله، ما إذا كان صاحب البيت يبعه الباب، فتعجب الرجل من سؤاله، وظل يبحث في ما حوله عن إجابة، متيقنا بانه لم يعرض بابا للبيع، لكن كامل أشار إلى الباب الذي طرقه، بخشبه المقدود من الغابة النائية، بأقفاله ومساميره المرصعة، بمزلاجه الخشبي، ذي الأكرة النحاسية، وأخذ العجب لبَّ صاحب الدار، تعجب من الطلب الغريب، إذ كيف يبيع أحدٌ ما باب داره ؟ وتمضي سنتان، وكامل مرتضى يسائل صاحب الدار بيع بابه، حتى إذا تمكن من ذلك خلعه، وجاء به ، ليضعه حارساً على مقتنياته، في داره التي جعلها متحفا. شيء من جنون وعشق خالط الرجل، لكن مراده لم يتوقف عن حد، فراح يبحث في القرى والبساتين، عن أضلاع سفينة غرقت، عن معول كان قد استخدم في هدم ذاكرة ما.
لم يكتف مرتضى كامل بجمع ما تناثر من مقتنيات الناس، أو ما صار منه أنتيكات وتحفا، حسب، إنما جمع النادر والمستحيل من انواع نخيلها وأشجارها، فالفسيل المجهول لديه قضية أخرى، إذ سيكون دائب البحث، مجتهد السعي، حال سماعة بوجود نوع نادر من النخيل عند أحد، مهما كان نائياً، ومهما كانت قد بعدت وعزّت على السفر ديارُه. وحين اخذنا في جولة قصيرة بين اشجاره، دلنا على ما هو غريب ونادر، نخيلا وسدراً وعنباً، ولما كانت الظهيرة، جعل من قارب، زورق أثري، ملون ومطلي بزيت كبد الحوت، مكانا لتناول طعامنا، ركبا فيه، كما لو أننا ننطلق في رحلة خرافية باتجاه الماضي، وساعة فراغنا من الطعام، أعلمنا بان باص الخشب، الذي كان يستخدمه أهل ابي الخصيب في تنقلهم بين البصرة والعشار ومئات القرى، المصنوع سنة 1955 هو من سنتناول على مقاعده الشاي. أي خرافة هذه ؟
لن يكون الثناء،-الذي هو حق، على ما قام به الرجل- كافياً، فالقضية لن تكون بالبساطة هذه، وقد يكون مرتضى كامل مسكونا بالماضي، لكن الحقيقة الاكيدة تقول بان المدينة تضيع، ويضيع مفصل منها في كل ساعة تمر، والناس نيام، أقصد الحكومة، نعم الحكومة نائمة، فالاشياء تختفي وتضيع وتندثر، ونحن بلا ماض، بلا مباهج قديمة، بلا أدلاء ،فإلى أين، وعلى أيّ خشب قديم، متهالك، وفي أي مرفأ سترسو سفينة مباهجنا الضائعة؟!
جميع التعليقات 1
عبدعلي مرزوك
سﻻم عليكم...اتقدم بالشكر الجزيل الى اخي وصديق الماضي اللصيق اخي ابو علي واشكر له روحه الشفافه وفكرته الرائعة في جمع تراث اهلنا وفقه الله تعالى لنيل طموحه وطموحنا في جمع هذا الماضي العريق ﻻبائنا واجدادنا جزاره الله خيراً