نكاد لا نبالغ في قولنا اذا ما اعتبرنا الروائي عباس لطيف قد اناب نفسه عن عذاباتنا ليسردها نيابة عنا ويفرشها امام قارئه طائعا وراضيا بما آلت اليه امورنا خلال مجموعة من السنين والحقب القاهرة والمؤلمة التي مرت علينا وقد مست بالعذاب والالم العديد من شرائح
نكاد لا نبالغ في قولنا اذا ما اعتبرنا الروائي عباس لطيف قد اناب نفسه عن عذاباتنا ليسردها نيابة عنا ويفرشها امام قارئه طائعا وراضيا بما آلت اليه امورنا خلال مجموعة من السنين والحقب القاهرة والمؤلمة التي مرت علينا وقد مست بالعذاب والالم العديد من شرائح هذا المجتمع الرافديني الذي ادرك مؤلف رواية (شرق الاحزان) بما عرف عنه من مواظبة واهتمام بقراءة النفس البشريه , ادرك الاّ مفر من خوض التجربة المرة وعرضها بكل وضوح , لذا نجد أن اللغة تتكفل عملية التوصيل بما عرفت به اللغة الواقعية التي تذهب لمحوريها دفعة واحدة , وتلك احدى البديهيات التي تفرض علينا احقيتها في اننا حين نكتب عن موضوع واقعي لا مفر لنا من استخدام لغة واقعية , وذلك ما فعلته هذه الرواية حين واجهت معضلتها الاساسية وهي الوقوف في الضد من كل طروحات الواقع العراقي المرير الذي عشناه مع: (مجيد وحسن وسعدية الروسية وكامل) ومجموعة المهاجرين من الشاكرية الى مدينة الثورة , على امل تشييد حلم المدينة الفاضلة , كان من الضروري ان يعطي ألمؤلف موضوعة التحول المديني , يعطيه حقه الكافي خصوصا وان اسرة كامل ومجيد توحي بما لا يقبل الشك انها تعود الى السارد الاول في هذه الروايه التي تتشابه من حيث النزعة الارسطية مع حس الملحمة, , ثم نخلص الى عملية حفر نفق سجن الحلة الشهير ليخلص موضوعته , اي النفق , الى ان يسجل انصع صفحة في التاريخ السياسي العراقي وسجل اليسار العراقي في ستينات القرن العشرين ,على اعتبار ان هذه العملية بحد ذاتها تعتبر من الانتفاضات الحقيقية التي تبنتها الحركة السياسية في حينه رغم ما انتهت اليه , وقد اعطى المؤلف لهذه القضية التي قررت مصير عدد من سجناء سجن الحلة وقد منحها الشيء الكثير من العناية والاهتمام بالسرد , وهي حكاية اصبحت شهيرة ولم تعد خافية على الناس القريبين من احداث السياسة في هذا البلد الذي استولى على مقاليده اكثر الناس استعدادا للقتل والسرقة ايضا.. ورواية (شرق الاحزان) محملة بالمزيد من حكايات الامهات المعذبات والرجال المندحرين والشباب المخيب بآماله المفقودة.. واضح ان المؤلف قد تكدس لديه خزين كبير من احداث وحكايات تخص الناس الاخرين كان شاهدا عليها فيما مضى من ايام واخرى عاشها عن قرب او كان مساهما في صناعتها لهذا قرر تحميل روايته المزيد مما يعرفه من صبوات قتيلة وحكايات ماساوية , ولا يخفى على قارئ الرواية هذه ان يلمس المزيد من تلك الاحداث التي يمكن لها ان تشكل الاطار الحكائي للرواية وهو اطار مفتوح على شهية السرد غير المنتهي عند نقطة محددة او مقرر عندها ان تكف شهرزاد عن الحكي الواقعي المرير, فالاطار الحكائي للروايه هو في حقيقته اطار مفتوح وغير مغلق اي يستطيع السارد تزويدنا بالعديد من الحكايات التي لن تتوقف عن نقطه واحدة اومحددة , واذا شئنا التعرض الى بعض الحكايات في ورقتنا هذه فان الرواية وضعت, امام اعيننا حكاية الطيار صلاح احمد الذي قرر الهرب من سجن نقرة السلمان وقد حسب لكل شيء حسابه حتى توفير بوصلة يسير على هديها , ولكنه: ((وبعد ايام عثر على الطيار صلاح احمد جثه هامدة نهشتها الغربان وسط صحراء السماوه / الرويه ص 16)) ويتساءل السارد الذي يبدو معنيا بكل تفاصيل عمله المروي بدقة عمل واقعي:ـــــ هل مات من الجوع والعطش؟ ام الخوف والظلام وعدم وجود اية بارقة امل؟ وسنعجز كثيرا اذا ما اردنا متابعة الحكايات الواحدة تلو الاخرى , فقد صممت تلك الحكايات على هيئة تذكرنا ببنية الملحمة التي يتكدس في اروقتها العديد من الحكايات التي تنتهي عادة بماساة قاهرة , الروايه هنا تنطلق مع المأساة العراقيه التي بدأت في منتصف الخمسينات من القرن العشرين وهي الهجرة من الريف الى المدينة , وتمضي بنا الحكايات المريرة والقاتلة بأحزانها حتى نصل الى الحرب العراقية الايرانية , وهو فاصل مليء بالدم الذي سال لسنين طوال بلا معنى , وسوف نجد ملحمة الموت والقتل المجاني بل الرعب والخوف الذي يتجسد في الصورة التي تقدمها الرواية ص 118((ها هو اليوم العاشر , وانا ادفن بين الاحراش والسواتر , واصبحت لا افرق بين رأسي والخوذة , ويلف عنقي حزام قناع الوقاية الذي لو وضعته على الوجه فانك تفقد التنفس.....))..
ويتنافس خطان سرديان بارزان في (شرق الاحزان) هما: معضلة حرب العراق مع ايران وقضية النضال السياسي في العراق.. وفي كلتا الحالتين ندرك اخطر مسببات الفشل الذي منيت به الحركة الوطنية في نضالها المستميت من اجل الوقوف بوجه المآسي واهوال القدر تماما كما وجدنا ان الفائز لا يربح شيئا في الحرب على حد تعبير ارنست همنكواي،أية حرب كانت ومهما بدا الاستعداد لها قائما على كل مستلزمات ادامة حرب كافرة لا معنى لها.. إن موت انسان واحد دون مبرر او ذريعة منطقية هو دليل كاف على خسارة الحرب من قبل القائمين عليها , ولنا ان نتساءل من الذي يدفع الثمن من الناس اكثر من سواه في الحرب عادة؟ يجيبنا السارد على ذلك بفم مليء بالاحزان: ص77:((الامهات وذوو الثقافه هم من يكابد ويلات الحرب , فبكاء الامهات على فلذات القلوب وهم يسحقون تحت سرفات الحرب.))ثم: ((والذين يقرأون يرفضون منطق الحرب المجنونة , فهي نبات اللاعقل واللاحكمة والطريق الى العبث الدموي..)) لعل من اليسير علينا ونحن نحاول الاكتفاء بعرض ابرز معضلتين وهما الحرب والسياسه غير ان من الصعب تجاوز محن اخرى كثيرة عالجت الرواية بعضها وتركت البعض الاخر ولنلحظ التغيرات الاجتماعية التي طرات على حياة المواطنة الروسية حالما بدلت من هويتها وكينونتها في المدينة الغريبة عليها، ليس بغداد فحسب بل مدينة الثورة وانسجامها مع الطقوس الحسينية في عاشوراء وما حصل لها وما جرى بعد الذي عاناه زوجها: ((... كان البيت حزينا كسائر بيوت القطاع فقد هيمن حزن ثقيل على الوجوه والارواح بالاخبار الحزينة والقدر المقيت الذي اختطف كل احلام سعدية الروسية وانهى بضربة واحدة على انتظارها اللامجدي لخروج سليم من السجن.. / ص 129..)) ان المصائر في شرق الاحزان تميل الى ان ترسم لنا الماساة العراقية ليس بمنطق الروايه بل ما شكله الواقع الصعب في الحقب تلك , فقد كان واقعا حكم علينا من خلاله بالموت البطيء , ويبدو ان معظم رواياتنا المتاخرة التي تحاول التعرض الى تلك السنين العجاف لكي تنفض اليد من صفحات تلك الويلات التي عانى منها الانسان العراقي بكل ما عرف عنه من صبر ومعاناة , وذلك ما فعلته رواية شرق الاحزان باصرار ومعرفه للذي يجري امام اعيننا اليوم او الامس معا..