TOP

جريدة المدى > عام > فصولٌ من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

فصولٌ من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

نشر في: 15 إبريل, 2015: 12:01 ص

القسم الثاني والعشرون
 
بدا لي جليّاً أنّ جوي تحمّلت بعضاً من سوء الحظّ الّذي رافقَني تلك الأيّام مع مالكات السّكن، كانت جوي تتشاركُ السّكن آنذاك مع فتاةٍ فرنسيّة لذا لم أكن قادراً على قضاء الكثير من الوقْت معها ، لكنّ مالكة السّكن كانت تسمحُ

القسم الثاني والعشرون

 

بدا لي جليّاً أنّ جوي تحمّلت بعضاً من سوء الحظّ الّذي رافقَني تلك الأيّام مع مالكات السّكن، كانت جوي تتشاركُ السّكن آنذاك مع فتاةٍ فرنسيّة لذا لم أكن قادراً على قضاء الكثير من الوقْت معها ، لكنّ مالكة السّكن كانت تسمحُ لهما باستقبالِ زائريهم في غرفةٍ الزّائرين ، و حصل ذات يومٍ أن هطل المطر بغزارةٍ و اضطررْتُ الى النوم فوق أريكةٍ في تلك الغرفة على أمل أن أغادر مع أوّل ضياء الفجر ، و هبطت الفتاة الفرنسية بعد منتصف اللّيل إلى الغرفة و تظاهرت بوقْع المفاجأة الثقيلة عندما علمت بوجود رجلٍ غريب نائم في الغرفة فرفعت شكوىً إلى مالكة المنزل ، واستاءت جوي من سلوك زميلتها ، وعقدت العزْم على مغادرة السّكن بأسرع ما يمكنُ وعثرتْ بالفعل على غرفةٍ عند الطّرف المقابل من شارع فيلوز رود وكانت أكثر قرباً لإحدى محطّات قطار الأنفاق ، وكانت جوي في ذلك الوقت تعملُ في مكتبةٍ بمنطقة ستانمور Stanmore وكنتُ معتاداً كلّ صباحٍ أن أركب درّاجتي وأنطلق لتناول القهوة في غرفة جوي قبل ذهابِها إلى العمل ثمّ اتوجّهُ على الفور إلى مكتبة المتحف البريطانيّ ، و بعد عدّة زياراتٍ إلى غرفة جوي انفجرت بوجْهِها مالكة الغرفة وأمرتْها بإخلائها ، وتلقّت جوي الأمر بسعادةٍ بالغة لأنّ المرأة كانت عصابيّة تصرخُ على الدّوام بوجْه أطفالِها ، ووجدت جوي سكناً لها قريباً من مكان عملها في ستانمور ، ورسّخت هذه الحادثةُ رأيي بشأن فظاظة مالكات السّكن وسوء سلوكهنّ . كان شهرُ آب يقترِبُ وأردْتُ مغادرة لندن لبعض الوقت و كان هذا يعني ضرورة حصولي على عملٍ يوفِّرُ لي بعض المال ، وكنتُ حينذاك أعتاشُ على بعض المال الّذي أقترضُهُ من جوي بعد حصولِها على مُنحةٍ لدراسة علم المكتبات ولكن توجّبَ عليّ إعادة ذلك المال في فترةٍ قصيرة ، وعلمت حينذاك بوجود وظائف مؤقّتة بمرتّبٍ جيّد في مصنعٍ قريبٍ للألبان على الطّريق الغربيّ قريباً من أوسترلي بارك . كان العملُ في مصنع الالبان رتيباً وشاقّاً للغاية ويبدأ من السابعة صباحاً و يمكنُ أن يتواصلَ حتّى السّابعة مساءً حتّى يتسنّى لي جمعُ أعظمُ قدرٍ ممكن من المال ، و كان عملي هو أن أرفع قدور اللبن الضّخمة وأضعها على حزامٍ متحرّكٍ طول الوقت ، و عثرْتُ على حقلٍ قريب من المصنع لأنام فيه ليلاً ، و بدأتُ بتعلّم اللغة اليونانيّة لكي أقلّل من رتابة العمل حيثُ كنتُ أحفظُ بعض المفردات في فترة الإستراحة وتناول القهوة ثمّ كنتُ أراجعُها أثناء العمل فإذا حصل و نسيتُ إحداها كنتُ أنظرُ على الفور في الكتاب المفتوح امامي ، وقابلْتُ حينذاك امرأةً تدعى ( غريس ) كانت تعملُ في مطعم الشّركة و تدّعي معرفةً فائقة بأمور الفلك و التنجيم ، ورغْم أنّ تدريبي العلميّ كان يدفعُني دوماً للتشكيك في أمثال هذه الأمور لكنّ الحقيقة تقتضي منّي الاعتراف بأنّ غريس أخبرتني أموراً ماكان احدٌ يعرفُها عنّي سوى والدتي . 
عثرْتُ ذات يومٍ - عندما كنتُ أعملُ في مصنع الالبان – على نسخةٍ من رواية كامو المعنوَنة ( الّلامنتمي ) في مكتبة تشيسويك Chiswick العامّة و اجتذبَني العنوانُ على الفور إذ كنتُ أظنُّ أنّني الوحيدُ الّذي أستخدم اللامنتمي في ذات السّياق الّذي استخْدمَهُ كامو ، و كانت الروايةُ قصيرة حتّى أنّني قرأتُها في جلسة قراءةٍ مسائيّة متّصلة ، وأضفْتُ الكتاب على الفور إلى سلسلة كتُبي عن اللامنتمي الّتي كنتُ راكمْتُها في مكتبتي المنزليّة في ليستر منذُ عام 1950 .
بعد بضعة أسابيع من العمل في مصنع الألبان جمعْتُ ما يكفيني من المال لتسديد ديْن جوي والإستمتاع بصُحبتِها في إجازةٍ لمدّة أسبوع في كورنوال ، ومن المُثير للغرابة أنّنا نصبْنا خيْمتَنا في حقلٍ يبعدُ أقلّ من نصف ميلٍ عن منزلنا الريفيّ الّذي اشتريْناه في كورنوال لاحقاً ، وتمتَعْنا كثيراً في إجازتِنا تلك واشتريْنا نسخة من كتاب نورواي المسمّى ( الطّرُقات السّريعة و الفرعيّة في ديفون وَكورنوال Highways and Byways in Devon and Cornwall ) وراحَ كلّ منّا يقرأُ للآخر وبصوتٍ عالٍ أساطير الجبابرة والعمالقة والعفاريت و الأسطول الإسبانيّ العظيم ( الأرمادا Armada ) . اعترضتْني خلال إجازة كورنوال لحظةُ استبْصارٍ لا زلتُ أتذكّرها حتّى اليوم : كنّا انا وَ جوي خائفيْن من احتمالِ أن تكونُ حاملاً ، و انتابَني ذات الشعور السّابق الّذي غمرَني قبل بضع سنواتٍ و رأيْتُ نفسي مُطارَداً لا يهدأُ له بالٌ ، و مرّت الأيّام الأولى من الإجازة و هي ثقيلة الوطأة عليْنا رغمَ أنّني كنتُ سعيداً للغاية بوجودِ جوي معي و كنتُ أرى فيها تميمةً للحظّ السّعيد الّذي ينتظرُني لامحالة ، و راح عقلي يحدّثُني فيما لو كان شعوري بالسعادة محض خداعٍ ذاتيّ : فكيف سيكون الأمرُ لو ثبت أنّ جوي حاملٌ ؟ عندها لا يكونُ أمامنا سوى العودة الفوريّة إلى لندن و البدء في إجراءات إسقاط الحمل من حمّامات ساخنة و القفز المتوالي من المنضدة ، و عندما كنّا في بلدة تايغنماوث انزوَتْ جوي لنصْف ساعةٍ في دورة المياه ، و بعدما خرجَت ذهبْنا للتجوّل على الرّمال باتّجاه الجّسر المشيّد على النّهر و أخبرْتُها " أعتقدُ أنّ من الأفضل أن نعود إلى لندن غداً " ، و هنا بدا عليْها الارتباكُ للحظةٍ و أجابت " لندن؟؟ كلّا ،،، لا حاجة لذلك أبداً ،،، فقد جاءتْني منذُ ساعةٍ مضت !!! " و كان هذا نمطاً نموذجيّاً لسلوك جوي إذ أنّها نسيت إخباري مسألة في غاية الأهميّة بالنسبة لي ، و فجأةً بدأتُ أتطلّعُ باتّجاه إكسماوث و عندها بدا البحرُ أمامي جميلاً إلى حدودٍ أسطوريّة ، و وجدْتُ نفسي أتمتمُ : أهااا ، هذا لانّك وجدْتَ راحةً من بعْد ضيق ، ثمّ أعدْتُ النّظر إلى البحر و تمتمْتُ ثانية : لا ،،، البحرُ جميلٌ بذاته حقّاً !! . ما أدهشَني بكلّ وضوحٍ آنذاك أنّ ما كنتُ أراهُ حقيقةً ماثلةً أمام عينيّ -العمقُ الرّائع للغموض و الجّمال و السّحر في البحر أمامي - كان حقيقةً موضوعيّة موجودةً حيثُ هي طول الوقْت ، وأنّ المعنى هو مُعطى موضوعيٌّ كما لو أنّ الطّبيعة لا تكفُّ عن إخبارِنا بالحقائق دوماً ، و أنّ آليّة الشدّ و الارتياح الّذي يعقبهُ هي فعاليّةٌ أزاحت جانباً القناع عن المشهد الموضوعي الّذي امامي بالضّبط كما تُزاحُ ستارة المسرح كاشفةً عن المشهد الّذي تجري وقائعهُ على الخشبة ، و لكن إذا كان الأمرُ يحصلُ بآليّةٍ كهذه ينبغي للمرء حينئذٍ أن يكون قادراً على حثّ نوعٍ من تجربةٍ تماثِلُ النشوة المقترِنة بالرؤية التصوّفيّة و بكلّ بساطةٍ عن طريقِ رؤية الأمور كما هي و من غيْرِ أقنِعةٍ تحجُبُها ، و لكن كيف ؟ الجوابُ عن طريقِ تعلُّمِ إعادة إنتاج العمليّة العقليّة الّتي تكفُلُ إزاحة السّتائر الّتي تحجُبُ عقولَنا عن رؤية الحقيقة الموضوعيّة . لم تكن بصيرتي في هذا الصّدد شيئاً جديداً عليّ تماماً : إنّها هي ذات الاكتشاف الّذي كان بليك Blake اختبرَهُ من قبلُ عندما قال بأنّ الأشياء تستحقُّ أن ينظَرَ لها كأشياء لانهائيّة متى ما أُزيحت كلّ السّتائر الّتي تحجُبُ مجسّات الإدراك ، و عند تلك النقّطة المحدّدة تولّى تدريبي العلميّ تفسير الإشكاليّة بطريقتي الخاصّة ، إذ تساءلْتُ : ما طبيعةُ الفعل العقليّ الّذي يمكنُهُ إزاحةُ الحُجُب عن الإدراك البشريّ ؟ إنّ الكائنات البشريّة تمتلك قدراتٍ عظيمةً ترفعها فوق مستوى الحياة الحيوانيّة ، ولا تقتصرُ هذه القدرات على بلوغ تخوم البهجةِ الفائقة عن طريق الشّعر و الموسيقى بل ثمّة آمرٌ آخر : قدرة هذه الكائنات على بلوغ قمّة النشوة الجنسيّة في غياب وجود أيّ مؤثّر جنسيّ ، و ليس ثمّة كائنٌ غير الإنسان من يستطيعُ الإتيان بهذا الفعل عن طريق تخليق أنماط معقّدة من الاستجابات العقليّة بوساطة فعل الخيال وحده ، و بذات الطريقة ليس ثمة سبب يمنعُ الإنسان من تعلّم كيفيّة إزاحة ستائر اللامُبالاة و التعوّد البليد الّتي تحجبُ عنه الحقيقة ، و هي ببساطة مسألة تعلّم إعادة آليّة إنتاج الفعّاليّة العقليّة الخليقة بكشف الحقيقة الموضوعيّة ، و لكن ما السّببُ وراء شعوري بسعادة غامرة حينما تدفعُني نغمةٌ ما أو رائحةٌ ما إلى إستذكار الماضي ؟ لانّني غدوْتُ مدركاً لثراء الحياة و ما تنطوي عليْه من الإمكانيّات الهائلة للتنوّع و الاختلاف ، ثمّ مضيْتُ خارج غرفتي الضيّقة الّتي تتّسِمُ بالذاتيّة المحبِطة ، و عندما يصطادُني فخّ تلك الغرفة يكون شعوري أن لاشيء يستحقّ المُحاولة و الفعْل و يكون من شأن أتفه المُضايقات اليوميّة أن تجعلَني أنزلِقُ في قعْر اليأس و القنوط ، و حينئذٍ يمكنُ لحادثٍ صغير مثل الحادثة التي ذكرها بروست عندما غمس قطعة بسكويت في فنجان الشّاي ( ثمّة تفصيلٌ لهذه الحادثة في فصل الحوار مع الكاتب ، المترجمة ) أن يذكّرني بوجود الآخرين و يستحيلُ الحادِثُ في نهاية الأمر مثل ضحكةٍ عظيمة تزيحُ كلّ المشاعر السلبيّة الّتي تدفعُني للانغلاق و التعايش مع قنوطي ، و تغمرُني في احتكاك مباشرٍ مع شيء أكثر جوهريّةً بكثيرٍ من محض ذاتي الّتي لطالما تعاملْتُ معها . أليس هذا هو السرّ وراء كلّ الشّعر ؟ أ ليْس هذا هو السّبب الّذي جعل شيللي يشعرُ بالإنبهار أزاء القوّة العظيمة الكامنة في الرّيح الغربيّة ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram