اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عن النزوع القومانيّ المتبادَل: الفارسيّ والعربيّ

عن النزوع القومانيّ المتبادَل: الفارسيّ والعربيّ

نشر في: 17 إبريل, 2015: 09:01 م

ملاحظاتنا العابرة على مواقع التواصُل الاجتماعي تفجّر بعض المواضيع الحيوية والمسكوت عنها. هاكم واحداً منها، بمناسبة تصريحات مستشار الرئيس الإيراني روحاني، السيد علي يونسي بشأن العراق. نحن لا نقبل قطعا هذا التصريح الذي تنصلّتْ عنه على الفور الدولة الإيرانية التي تعرف أن تفكيراً مثل هذا موجود، بخفاءٍ أو بصراحةٍ، في بعض مفاصل الثقافة الإيرانية المعاصرة، وأنه اندرج فيها بإطار وعي قوميّ محايث وبمصطلحاته منذ نهايات القرن التاسع عشر، حيث اعتبر البحثُ الأوروبيّ إيران واقعةً في نطاق الثقافة (الآرية) الممنوحة يومها معنى عرقياً وتفوّقا ثقافياً، وليس انطلاقاً من الدلالة اللغوية، أي انحدار اللغة الفارسية من عائلية لغوية مشتركة مع اللغات الأوربية. حينها كان الاتجاه الأوربيّ السائد يخلط بين (الثقافيّ) و(العِرْقِي)، أو بين (الفيلولوجيّ) و(الحضاريّ). عندما تخلى هذا الاتجاه جزئياً عن هذا النزوع المريب، بعد الحرب العالمية الثانية، مُدْرِكاً أن ثقافة الهند مثلاً قد تشكلت في إطار حضاريّ مختلف عن الثقافة الألمانية مثلاً، رغم ارتباطهما بالجذر اللغويّ (الهندو- أوربيّ)، ظلّت بعض الأصوات الفاعلة في ثقافات أخرى مصرّة على الخلط الموصوف.
غير ان نزوعاً قومانيّاً يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه فاعلٌ مُضْمَرٌ في بعض الثقافة الفارسية التي لا يُنكر مُنصفٌ عاقل من جهة أخرى أهميتها ورفعتها في كل حقل معرفيّ وجماليّ وأدبيّ. كتبتُ مرةً وبالشواهد عن هذا النزوع المؤسف فيما يتعلق بالفن الإسلاميّ الذي يعتبره بعض المثقفين الإيرانيين – متأثرين بأوائل الدارسين الأوربيين – محض منجز فارسيّ، أو أنه محض مرحلة زمنية من مراحل تاريخ الفن الفارسيّ (وهو ما يقول به الباحث الإيرانيّ مليكيان شرفيان).
لكن يتوجّب القول إن النزوع القومانيّ هذا عينه، حاضر عند بعض العرب أيضاً منذ عهد طويل. إن نزعة تفوّق العرب الإطلاقية، ذات الجذور القبلية، ظهرت صريحة، ضد الفرس خاصةً، في الأقل منذ منتصف العصر العباسيّ. كان الحديث عن (فضل العرب) على غيرهم من الشعوب شائعاً كأنه من البداهة التي لا تُناقش (وهو أرث البعثيين العراقيين وبعض القومانيين العرب لاحقاً)، وبسببه ظهرت قديماً الشعوبية التي رأت أن لا فضل للعرب على العجم (والعجم لغوياً كلّ ما ليس عربياً وليس الفرس حصراً). خذ على سبيل المثال كتاب (فضل العرب والتنبيه على علومها) لابن قتيبة الدينوريّ (٨٢٨م - ٨٨٩م) منذ القرن التاسع الميلاديّ، وهو تاريخ مبكر. يلخّص ابن تيمية فرضيّة الأفضلية قائلاً: "فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم وأن قريشا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسا وأفضلهم نسبا". علينا أن لا ننسَ أن ابن تيمية هو مرجع أساسيّ من مراجع السلفيات الدينية الراهنة.
بعيداً عما سُميَ بالشعوبية التي تستحق مطالبها وطريقة تفكيرها إعادة الفحص من وجهة نظر علمانية أقلّ تعصُّباً، فإن عدم القبول بفرضية تفوّق العرب قاد أيضاً إلى ظهور نزعة مديح للفرس ولحضارتهم، حتى من طرف شعراء عرب، وهو ما يتوجّب فحصه أيضاً بطريقة أقلّ تشنّجاً، كما في قصيدة البحتري، التي يقول فيها: (أَتَسلّـى عـن الحظــوظ وآسى لمَحَـلٍّ مـن آل ساســانَ درسِ - أَذكَرتِنيهُـمُ الخطــوب التوالي ولقـد تُذكِــر الخطــوب وَتُنسي - وهـمُ خافضون فـي ظلِّ عالٍ مُشرفٍ يَحسـر العيونَ ويُخسي). ولا ننسى شعر بشار قبل ذلك في ذم العرب وأبي نواس (المولود في الأهواز = خوزستان) وكلاهما يُغْمَز من نسبيهما كَذِباً، وكلاهما عاشا فترة من حياتهما في البصرة ليس بعيداً عن بلاد فارس. مثقف كالجاحظ كان واسع الأفق، ولم يُنْكر يوماً فضل أحد.
بَعْث العراق هو الذي أشاع، على طول العالم العربي وعرضه، نغمة (الفرس المجوس) التي يستخدمها اليوم من كانوا خصومه بالأمس.
خلاصة الأمر أن القومانيين العرب والفرس تبادلوا الموقف نفسه منذ وقت بعيد، ويا ليتهم كَفُّوا عن الإيمان بهذا الموقف اللاعقلانيّ، وانصرفوا إلى حسن الجوار ومشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. سلام هاشم حافظ

    هذا كلام العقلاء في زمن قل فيه ذوو العقل حتى بين من يدعون الثقافة .تحياتي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram