اعتدتُ ان اترك فراشي باكراً، كل فجر، انا مجنون النور والفراشات واجنحة العصافير القصيرة، أقف على ضفة الجدول الذي انحسر الماءُ عنه، وطفت مويجاته ناعمة، تحتمي بالقصب والظلال، أفكر بالنازلين على جسر في الرمادي، وهم يزدحمون عليه، فارّين من رصاص، كثيرا ما راح يعبر الضفتين، طائشا وغير طائش. يهاتفني أحدهم، ممن ترعبهم الخراطيش الفارغة، ليقول لي بان أحد أصدقائنا، الذي يسكن قرية نائية بأبي الخصيب، قتل أمس برصاص مجهول، اتحسس صوت الرصاصة قرب عنقي، فيأتيني في هيئة جرح عميق. تقول فيروز من مذياع الترانستور الصغير: يا هوى يا زهرة المساكين، هل كان العشق زهورا على قبور القتلى المجهولين، عُشّاقاً ومعشوقين. تنزلق دمعة حارة على خدي، اكاد اخفي حزني في ورقة على الطاولة. يقول لي ضابط في الشرطة: بانه غير قادر على منع الرصاصات من الوصول إلى صدور كثيرين في المدينة.
ينحسر هواء الغرفة، فاستعين بالفضاء مَباءة، وأستجير بزهر الرمان الصارخ حمرة، لوناً ناريّا اوازن فيه اضطراب أنفاسي، التقط صورة لقميصي الذي أنا فيها فيبدو اللون الأحمر زجاجيا شفافا، الاحمر على القميص الابيض لا يني ينقسم قسمين، الفرح والحزن معاً في لونين قد يتباينان في لحظة واحدة. هذا يوم يأتي على غير عادة الايام، الرصاص يقمع بهجة احساسنا بالصباحات الربيعية، وصورة الموت في البلاد لا تنفك تنهش ما ظل من صور البهجة في الروح. يكتب الصديق، الشاعر حامد الراوي معلقاً على صورة الهاربين من اهل الرمادي تجاه العدم: "الشهم لا يشمت". هل في الأمر من شماتة يا ترى؟ أيشمت احدنا بمن ترك دياره وفرَّ بجلده مع أطفاله ونسائه؟ أقول هذا، واسأل نفسي المرعوبة من الخراطيش الفارغة، هل أذهب لمجلس عزاء صديقنا المقتول قرب الجسر في باب سليمان؟ ومن أي باب سأدخل، هل اتفرس في الوجوه جميعها، لأطمئن نفسي بان الذي خلف السيارة البعيدة، تلك، لن يشهر مسدسا بوجهي، هل أصطحب، مستعينا بالضابط الذي قال لي بانه غير قادر على منع الرصاصات من الوصول الى صدور كثيرين في المدينة؟؟
كان سعدي يوسف يقول: بلاد بين نهرين، بلاد بين سيفين. لا يا سيدي الاخضر، يا ابن يوسف. البلاد أضحت بين سيوف لا تحصى، والنهران الماءان، الدجلتان، الفراتان أصبحا انهارا من دم ورعب ومتاهات. ما يسكننا لا يسكن احداً سوانا. الغرباء الحيارى نحن، والمقتولون بسيوف اهلينا نحن، والشامتون بيننا ومنا، والرصاص عراقي بامتياز، متاح للجميع، كل صدر عراقي مشروع طائفي للموت، كل جسر بنيناه لعبورنا بالأمس نزدحم على ممراته اليوم، هاربين من قاتلينا الى قتلانا، فامسك عليك قصائدك، لا نريدك مقتولا معنا، لا نريدك قاتلا لنا.
رصاصٌ غيرُ ممتنعٍ جَسور
[post-views]
نشر في: 18 إبريل, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
متابع
ابكيتني ايها البصري الحزين