القسم الثالث والعشرون
بعْد أن عدْنا إلى لندن حصلْتُ على عملٍ في مطعم ( ليونز كورنر هاوس ) بشارع كوفنتري و كان عملي آنذاك بوّاباً للمطبخ ، و رأيتُ العمل ممتِعاً بما يكفي فقد كنت أحصلُ على طعامٍ مجّانيّ جيّد و بدأ وزني يتراكم ، و الذّكرى الوحي
القسم الثالث والعشرون
بعْد أن عدْنا إلى لندن حصلْتُ على عملٍ في مطعم ( ليونز كورنر هاوس ) بشارع كوفنتري و كان عملي آنذاك بوّاباً للمطبخ ، و رأيتُ العمل ممتِعاً بما يكفي فقد كنت أحصلُ على طعامٍ مجّانيّ جيّد و بدأ وزني يتراكم ، و الذّكرى الوحيدة السيّئة الّتي تجعلُني أرتجِفُ متى ماتذكّرْتُها هي ذكرى عجوزٍ لندنيّة بَرِمة بالحياة و تبدو متوجّعة و متقزّزة طول اليوم ، و حصل ذات يومٍ أن رأتْني هذه العجوز الوقحة أتناولُ شيئاً من كيكةٍ بالكريمة فأبلغت عنّي مديرة المطعم على الفور، و مع أنّ المديرة لم تفعل شيئاً أكثر من قليلٍ من التّوبيخ لكنّ احتقاري للعجوز بلغ بي حدّاً جعلًني أتمنّى ضرْبَها و عندها قرّرْتُ ترك العمل في المطعم ، و مضيْتُ أفكّرُ كم كانت حياة تلك العجوز كئيبةً و مفتقِدةً للمعنى و أنّها هي من اختارت أن تتّخذ موقفاً سلبيّاً و تبقى ملتصقةً بقيمِها الصغيرة و عندها ترسّخ إدراكي بحقيقة " أنّ الكائنات البشريّة تموتُ داخل زنزانة سجْنٍ تخلقُها ذاتُ تلك الكائنات إلّا إذا ابتغتْ خلاصاً يقومُ على توجيه كل طاقاتها نحوَ خارج ذواتها المُغلقة سعياً وراء هدفٍ غير شخصيٍّ " . مضيْتُ كعادَتي في النّوم داخل حقيبة نومي بمنطقة هامبستد هيث و كنتُ أختارُ دوماً ذات المكان تحت شجرةٍ عند منحدرٍ صغير ، و لكن عندما صارَ الجّو أكثر ميلاً للبرودة قرّرْتُ البحث عن غرفة للإيجار ، و كانت مشكلتي مع حقيبة النّوم هي أنّها لم تكن تسمحُ بتسريب العرق لذلك كانت تبدو مبلّلة في الصّباح كما لو أنّ مياه الأمطار قد تسرّبت إليْها ، و عثرْتُ في نهاية الأمر على غرفةٍ في منطقة بروكلي Brockley قرب محطّة نيوكروس ، و كانت مالكة السّكن سيّدة لندنيّةً بدينة أفضل من سابقاتها إلى حدّ لا تجوزُ معه وضعُها موضع المقارنةِ معهنَّ ، و أخبرْتُها أنّ جوي زوجتي و انها تدرسُ علم المكتبات و لا تستطيعُ قضاء سوى عطلات نهاية الأسبوع معي ، و مع أنّها عرفت بأنّني لم أكنْ أقولُ الحقيقةَ لكنّها لم تهتمَّ للأمر أبداً .
اختبرْتُ تلك الأيّام طوْراً من الاهتمام بالموضوعات التصوفيّة ، و لحسْن حظّي فإنّ مكتبة بروكلي العامّة كانت تحتوي مجموعةً من أفضل كتب التصوّف في لندن و كان معظمُ تلك الكتب محفوظاً في الطابق السفليّ من المكتبة و لم يكن يُسمحُ بإعارتِها خارج المكتبة ، و كان ثمّة سؤالٌ أساسيٌّ آنذاك يشغلُ تفكيري أكثر من سؤالٍ سواه : ما الّذي يمكنُ للإنسان المُعاصر أن يفعلَهُ وسْط حضارةٍ مثل حضارَتنا لا تمتلكُ رمزاً حقيقيّاُ للقيم الروحانيّة ؟ . كان في وسْعِ المرء إبان القرون الوسطى - لو كان ذا مزاجٍ يشابهُ مزاجي - أن ينخرِطَ في حياة زاهدة داخل أروقة أحد الأديرة ، و لكنّ الأمر استلزم منّي عشر سنواتٍ إخرى - و ربّما أكثر - لكي أتعلّم التمييز بين جوهر الدّين و بين طقوسيّاته المُرعِبة ، و غدوْتُ متّفقاً مع إليوت في ضرورةِ أن يكون الدّينُ شيئاً يمكنُ للجميع أن يروْهُ و أن يلمسوه تماماً مثل الانحدار العظيم لبرجِ كاتدرائيّة مهيبة بنوافذه الزّجاجيّة الملوّنة ، و تراتيل الرهبان على ضوء الشّموع ، و المواكب الضخمة للناس المُرتدين ملابس أرجوانيّة و فضّيّة وسط رائحة البخور المحترق ، و لكلّ هذه الأسباب كنتُ ميّالاً بكلّيّتي إلى الكاثوليكيّة و لطالما اخبرْتُ جوي برغبتي في دخول ديْرٍ في أحد الايّام القادمة و لم يكن هذا لتوْقي إلى حياة البتوليّة و الرأس المحلوق بل لمحْض رغبتي في إيجاد طريقٍ لي في الحياة يتوافقُ مع دوافِعي الدّاخليّة : أردْتُ الإفلات من قبضة حضارتِنا الراهنة الّتي أرغمتْني على الاستسلام لاعتباراتها المادّيّة و كان شعارُها المعلنُ أنّ "الإنسان كائنٌ إجتماعيٌّ" أوّلاً و قبل كلّ شيء آخر.
قبل أعياد الميلاد من تلك السّنة اشتريْتُ آلةً كاتبةً قديمة من أحد أصدقاء بيل هوبكينز في مقابل سبعة جنيْهات و مضيْتُ على الفور في نسْخ القسم الاوّل من كتابي ( طقوسٌ في الظّلام ) ، و تركْتُ عملي حينذاك في مطعم ليونز قبيْل أعياد الميلاد عام 1954 و مضيْتُ للعمل في مكتب البريد بمنطقة ( غراند سانت مارتن ) و قضيْتُ أعياد الميلاد و انا مُنغمِسٌ بالكتابة وَحيداً في غرفتي بعد أن كانت جوي غادرت لرؤية والديْها الّلذيْن كانا ميّاليْن آنذاك للمصالحة معي و راحا يطلبان منّي الزّواج من جوي ، و كنتُ في تلك الايّام أشعرُ بوهَنٍ عظيمٍ مالمْ أكُنْ أعملُ على كتاب الطّقوس ، و حصل ذاتَ يومٍ - و بعدَ أن تناولْتُ غداءً من بيضةٍ و قطعة لحم مُقدّد و طماطم معلّبة - أن انغمسْتُ في وضْعِ مخطّطٍ أوّليّ لكتاب " الّلامنتمي" الّذي كنتُ خطّطْتُ لكتابته قبل زواجي من بيتي ، و بعْدَ أن قرأتُ كتاب اللامنتمي لِـ ( كامو ) صرْتُ مفتوناً للغاية بصورة البَطَل السلبيّ غير الفاعل : الشّخص الّذي يكتفي بالتدخين ، و ممارسة الحبّ ، و التسكّع تحت أشعّة الشّمس فحسبُ و تذكّرْتُ من فوري كريبس Krebs : بطل قصّة همنغواي (منزل الجنديّ ) الّذي يختبرُ إحساساً بالّلامُبالاة المطلقة بعْدما يعودُ إلى منزله في الغرب الأوسط الأميركيّ عقب نهاية الحرب العالميّة الأولى ، و استدْعت صورةُ كريبس لديّ بدوْرِها صورةً أخرى هي أوليفر في مسرحيّة غرانفيل باركر ( الحياة السّرّيّة The Secret Life ) و بدأ آنذاك شيء ما يتشكّلُ في عقلي و كتبْتُ في أعلى صفحةٍ من صفحات يوميّاتي "ملاحظاتٌ أوّليّة بشأن فكرة الّلامنتمي في الأدب : ينبغي التّركيز على فكرة أنّ الّلامنتمي هو دليلٌ لنمطٍ خاصّ من الارتقاء الاخلاقيّ الّذي يبحثُ عن أرقى نماذجه في التقاليد المسيحيّة " ، و ما أن فتح المتحفُ البريطانيُّ أبوابه في السّنة الجّديدة حتّى سارعْتُ بركوب درّاجتي و مضيْتُ لأبدأ الكتابة في كتاب ( الّلامنتمي ) و كنتُ توّاقاً للغاية لرؤية أنغوس و لكنه كان في إجازةٍ تمتدُّ لشهْرٍ كامل ، و بينما كنتُ في طريقي إلى المتحف البريطانيّ استذْكرْتُ الكاتبَ ( هنري باربوس ) : فقد كتب في مقدّمة كتابه ( في مرْمى النّار Under Fire ( أنّ نجاحهُ الرّوائيّ الاوّل كان مع كتاب ( الجّحيم ( Hell الّذي يحْكي فيه عن رجُلٍ يكتشفُ ثقباً صغيراً في أحد جدران غرفته و يمضي في قضاء كلّ وقته و هو يراقِبُ العالم من خلال ذلك الثّقب ، و بدا لي ذلك الرّجل نموذجاً مثاليّاً لفكرة الّلامنتمي ، و في اللحظة الّتي وصلْتُ فيها المتْحف مضيْتُ على الفور إلى المكتبة و طلبْتُ نسخةً من كتاب الجحيم لباربوس و عندما جاءتْني النسخةُ قراتُها في جلسةٍ ممتدّة واحدة من الصّباح و حتّى المساء ، و بعد أن غادرْتُ المتحف في نحو الخامسة مساءً كنتُ أدركُ بكلً يقين أنّ البداية المُناسبة لكتاب اللامنتمي صارت في حوْزتي .
كانت قد مضتْ سنواتٌ عدّة و أنا أواظبُ على تسجيل يوميّاتي بانتظامٍ و كنتُ أسجّلُ كلّ ما يحوزُ انتباهي و أراهُ مهمّاً في الكتب الّتي أقرؤها مُحاولاً إيجاد رابطةْ من نوعٍ ما بين الاعمال المختلفة من أدب اللامنتمين و بين تجاربي الشخصيّة ، و كنتُ أحتفظُ بيوميّاتي قريبةً منّي و انا أكتبُ و امتلأت بأكداسٍ من ملاحظاتٍ متنوّعة : رامبو ، و أكسيل ، و راسكولنيكوف ، وَ ستيبينوولف ، وَ ريلكه ، وَ نيتشه ، وَ كتاب نيبورNiebhuhr : طبيعةُ الانسان وَ مصيره Nature and Destiny of Man ) )، وَ ميستر إيكهارت ، وَ راماكريشنا ، وَ جورج فوكس ، و كانت النسخة الأوّليّة من الطقوس تحتوي إشاراتٍ غامضة إلى كلّ هؤلاء و لكنّي وجدْتُ في نهاية الأمر أنّ من غير المناسب أن تكون روايتي مثقلةً بهذا النّوع من الغموض . ثمّة بصيرةٌ أخرى راودتْني و أنا أمشي بصحبة بيل هوبكينز قريبا من محطّة تشيرينغ كروس لقطار الأنفاق ، إذ بينما كنتُ أتحدّثُ إلى بيل بشأن عقدة روايتي ( طقوسٌ في الظّلام ) أوضحْتُ له أنّ شخوصها الرئيسيّة الثلاثة تمثّلُ بالضّبط ثلاثة أنماطٍ مختلفةٍ من اللامنتمي : البطل جيرارد سورم Gerard Sorme يُمثّلُ اللامنتمي ذا القدرة العقليّة المنضبطة مثل نيتشه و لكنّه يفتقدُ السّيطرة على جسده أو عواطفه ، و الرسّام أوليفر غلاسب Oliver Glasp الّذي كان ذا انضباطٍ عاطفيّ صارم مثل فان كوخ و لكن يفتقِدُ السّيطرة على عقله أو جسده ، و أخيراً القاتلُ أوستن نَنْ Austin Nunne الذي كان له انضباطٌ جسديٌّ هائلٌ مثل نيجينسكي و لكن تعوزهُ السّيطرة على عقله و عواطفه ، و لو أتيحَ لنا جمعُ هذه الأنماط الّلامنتمية الثلاثة في كائنٍ واحد لكانوا شكّلوا كائناً بشريّاً متكاملاً عوضاً عن ثلاثِ كائناتٍ غير كاملة . كان دوستويفسكي قد استخدمَ من قبلُ الأخوة كارامازوف في محاولتهِ عرْضَ ذات الموضوعة بطريقةٍ رمزيّة : إيفانُ يمثّلُ العقل ، وَ ميتا يمثّلُ الجّسد ، و إليوشا يمثّل العواطف ، و هذا هو السّبب الّذي جعل من الأخوة كارامازوف تشغِلُ حيّزاً أساسيّاً في كتاب اللامنتمي .