منذ إنشاء الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 وعدت الحكومات المتعاقبة، الملكية والجمهورية سواء بسواء، بإقامة نظام ديمقراطي، من أركانه الأساس حرية التعبير، بيد ان العراقيين لم يحصلوا على هذا النظام ولم يتمتعوا بحرية التعبير، كما نصت عليها الدساتير الدائمة والمؤقتة، إلا في فترات محدودة للغاية عقب الحرب العالمية الثانية وبعد ثورة 14 تموز 1958.
وعلى مدى أربعة عقود متصلة قبل 2003 وفي ظل حكومات جاءت الى السلطة بانقلابات عسكرية، جرت مصادرة حرية التعبير على نحو كامل. ومنذ تولّي صدام حسين رئاسة الدولة في 1979، تحوّلت حرية التعبير الى حرية تمجيد الدكتاتور وسياساته وحروبه العدوانية الداخلية والخارجية المدمرة، والخروج عن هذه "الحرية" كان يعني الإعدام، أو السجن الطويل في أحسن الأحوال.
وحتى في الفترات المحدودة التي شهدت تمتعاً بحرية التعبير ظلت هناك خطوط حمراء غير مسموح للصحفيين وعموم المثقفين بتجاوزها، وهي المتعلقة خاصةً بالدين ومؤسساته والجنس والملك أو الرئيس.
عقب سقوط نظام صدام في نيسان 2003 وانتقال السلطة الى إدارة الاحتلال الأميركي انقلبت الحال، فأصبح متاحاً للعراقيين التعبير عن آرائهم من دون قيود، باستثناء القيود المتعارف عليها دولياً مما يدخل في إطار الأخلاقيات المكرّسة في المدونات ( Code of Ethics). والدستور الدائم الذي أُقرّ في استفتاء عام نهاية العام 2005 كرّس هذا الوضع. عدة مواد فيه نصّت صراحة على أن تكفل الدولة "حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل"، و"حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر"، و"حرية الاجتماع والتظاهر السلمي".(المادة 38)، و"حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام اليها"(المادة 39)، و"حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والالكترونية وغيرها" (المادة 40)، و"حرية الفكر والضمير والعقيدة"، (المادة 42). وحظر الدستور في مواد أخرى كل شكل من أشكال القمع والقهر الفكري والسياسي والتعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية، وكذلك الحجز والاعتقال من دون أمر قضائي.
نظرياً تمتّع العراقيون منذ ذلك الوقت بحق التعبير بحرية كاملة، لكنّ الممارسة العملية كانت شيئاً آخر، فالجماعات المسلحة التي نشطت تحت شعار مقاومة الاحتلال الأجنبي استهدفت في العديد من عملياتها الصحفيين والإعلاميين المؤيدين للعملية السياسية أو المخالفين لسياسة هذه الجماعات. ومع تفاقم الصراع الطائفي الداخلي صار الصحفيون والإعلاميون عرضةً للقتل والاختطاف والتعذيب على أيدي الجماعات المسلحة الطائفية، بما فيها الميليشيات التابعة لأحزاب مشاركة في العملية السياسية، فضلاً عن عصابات الجريمة المنظمة. وفي لحظة ما أصبح العراق الدولة رقم واحد في العالم على صعيد عمليات القتل التي يتعرض لها الإعلاميون، قبل أن يُخلي المكان لاحقاً لسوريا، لكن العراق لم يزل الدولة رقم واحد في عدم ملاحقة مرتكبي جرائم قتل الصحفيين ومعاقبتهم.
الأنكى من هذا ان قوات الحكومة العراقية انضمت هي الأخرى إلى القوى المعادية لحرية التعبير، ففي عهد الحكومة الثانية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي استخدمت هذه القوات السلاح الحيّ منذ شباط 2011 ضد المتظاهرين السلميين الذين طالبوا بتوفير الخدمات العامة وتحسين مستوى المعيشة المتردي ومكافحة الفساد الإداري والمالي وإجراء إصلاحات سياسية ووقف انتهاكات القوات الأمنية للحقوق والحريات. ولم تستثن تلك الإجراءات القمعية مكاتب المؤسسات الإعلامية والصحفيين الذين كانوا يغطون الأحداث في الميدان، فقد عمدت تلك القوات الى ضرب الصحفيين أمام الأنظار وتكسير أدوات عملهم، واعتقالهم من دون أوامر قضائية، وتلفيق تهم كاذبة في حقهم لترويعهم وإرغامهم على عدم تغطية المظاهرات، كما قامت تلك القوات بدهم عدد من المؤسسات الإعلامية "المعارضة" وتحطيم أجهزتها وإغلاقها.
ولكي توفّر حكومة المالكي الأساس القانوني لسياستها القمعية في حق حرية التعبير والإعلام شرّعت "قانون حقوق الصحفيين" الذي لم يمنح في الواقع أية حقوق جوهرية للصحفيين تتعلق بحرية ممارسة مهنتهم، بل انه وضع قيوداً صريحة على حرية التعبير عبر وسائل الإعلام. كما حاولت تلك الحكومة تمرير قوانين أخرى من شأنها تقييد حرية التعبير، ومنها مشروع قانون جرائم المعلوماتية ومشروع قانون حرية التعبير والتظاهر، الا ان المجتمع المدني والوسط الإعلامي وقفا بقوة ضد تلك القوانين، ما أرغم مجلس النواب على رفضها وردّها إلى الحكومة لتعديلها قبل مناقشتها في المجلس. ومع هذا فان القوانين القامعة للحريات الصادرة في عهد نظام حزب البعث لم تزل سارية المفعول وتستخدمها السلطات الحكومية والمسؤولون التنفيذيون للحد من حرية التعبير ولتخويف الصحفيين وسائر المثقفين.
يمكن القول انه منذ تولي رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي تراجعت كثيراً تلك الممارسات، وأصبح الصحفيون وسائر الكتّاب يتمتعون بحرية أكبر في التعبير عن آرائهم. كما لم نشهد خلال الأشهر الثمانية الماضية أي شكل من أشكال قمع التظاهرات والحركات الاحتجاجية. لكن المخاطر لم تزل قائمة فلا توجد قوانين تحمي الصحفيين والكتاب وتلاحق وتعاقب الجناة الذين يرتكبون جرائم قتل أو تعسف في حق الصحفيين والكتّاب، وهذا مما تسعى إليه النقابة الوطنية للصحفيين العراقيين التي أترأسها (أنشئت في كانون الثاني 2013 تلبية لحاجة الوسط الإعلامي الى نقابة مستقلة تدافع عن حقوق الصحفيين وتعمل لتوفير بيئة مهنية سلمية لهم)، الى جانب العديد من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية الديمقراطية.
والآن، كما يمثل داعش الخطر الداهم للعراقيين جميعاً ولكيان الدولة العراقية والنظام الديمقراطي الذي يتطلع إليه الشعب العراقي، فان هذا التنظيم الإرهابي يمثل أكبر تهديد للصحفيين والمؤسسات الإعلامية، وقد اعتقل داعش العشرات من الإعلاميين في المناطق التي يحتلها وقتل عدة صحفيين من الرجال والنساء سواء بسواء.
يعمل الصحفيون وسائر الإعلاميين في بيئة غير مواتية، بل عدوانية في كثير من الأحيان، ليس فقط بسبب التهديدات التي مصدرها داعش وبقية الجماعات الإرهابية والميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة وبعض المؤسسات الحكومية، وإنما أيضاً على صعيد الحقوق المهنية، في غياب أية قوانين تُلزم الدولة والمؤسسات الإعلامية بضمان هذ الحقوق للصحفيين، وبينها حق التأمين على حياتهم وتوفير الرعاية الصحية لهم ومنحهم أجوراً مجزية عن عملهم الخطر، وتأمينهم ضد البطالة والتعطل عن العمل وعند الإصابة أو المرض أو عند بلوغ سن التقاعد. كما يفتقد الصحفيون، مثل كل المواطنين العراقيين، الى واحد من أهم حقوقهم، وهو الحق في الوصول الحر الى المعلومات والحق في النشر الحر لهذه المعلومات. النقابة الوطنية للصحفيين ومنظمات مدنية أخرى تعمل الآن من أجل إقناع مجلس النواب بضرورة تشريع قانون في هذا الخصوص، وهو قانون بالغ الأهمية لتمكين الصحفيين من أداء مسؤوليتهم الاجتماعية بنجاح، والتي يتعلق جزء منها بمكافحة المظاهر السلبية في الحياة السياسية والاجتماعية، وبالأخص ظاهرة الفساد الإداري والمالي التي تعرقل تطور النظام السياسي في الاتجاه الديمقراطي وتحقيق التنمية المستدامة التي يحتاجها العراق بقوة.
* ورقة ألقيت في ندوة أقيمت الاربعاء الماضي في العاصمة الإيطالية روما ضمن سلسلة فعاليات نظمتها "جمعية صداقة إيطاليا – العراق: العراق للعراقيين".