حيال خسارات الروح العراقية الحية عبر رحيل ابرز ممثليها من مبدعين ومفكرين وعلماء، وبطريقة تبدو اقرب الى التكرار الممل: الموت نسيانا واهمالا ونكرانا داخل البلاد والموت اغترابا وووحشة في المنفى، تكاد الدموع تجف وتتحول الى ملح حجري.الخميس الفائت ، مات ال
حيال خسارات الروح العراقية الحية عبر رحيل ابرز ممثليها من مبدعين ومفكرين وعلماء، وبطريقة تبدو اقرب الى التكرار الممل: الموت نسيانا واهمالا ونكرانا داخل البلاد والموت اغترابا وووحشة في المنفى، تكاد الدموع تجف وتتحول الى ملح حجري.
الخميس الفائت ، مات الفنان التشكيلي العراقي محمد مهر الدين، واحد من جيل الستينات، الذي احدث في الثقافة والفنون اعمق الاثر، في القصة والشعر والنقد والسينما والمسرح الى جانب الفن التشكيلي، هو من جيل عرف بمشاركته الفاعلة في احداث بلاده وعصره وعياً وممارسة حية عاش الازمة تلو الازمة متطلعاً نحو افاق اكثر رحابة اجتماعياً وفكرياً، اشتغل في الرسم وصاغ رؤيته عن تلك الانشغالات مرة عبر الغرافيك واخرى عبر الملصق وتمارين لا تنتهي في اللوحة.
لوحته التي رافقتني شخصيا، اقتنيتها من معرضه الشخصي بعمّان 1998، وهاجرت معي الى اميركا، وعادت معي الى عمّان حيث كان يقيم بعد العام 2003 حتى وفاته. تلك قصة ليست بعيدة عنه، رغم انها تبدو خاصة بي، هي لها صلة بموضوعه الاثير: حين تمحورت تجربته الفنية حول موضوعة الاغتراب الانساني التي سألته عنها ذات حوار: هل تعتقد بانها (موضوعة الاغتراب الانساني) لم تستنفد بعد، وبامكان التشكيل وتجربتك شخصياً ان تظل تنهل منها تعبيرياً؟ ليقول:
يمكن تقسيم تجربتي الفنية الى مراحل، اولها مرحلة الستينات والسبعينات حيث كنت اعتمد التشخيص الكامل للتعبير عن مضامين فكرية ذات علاقة مباشرة بوجود الانسان بكل ما فيها من قسوة واغتراب، في هذه الحياة المعاصرة بل ما فيها من تقدم تقني يستخدم سلبياً لاضطهاد وتغريب الانسان، في تلك المرحلة اعتمدت على اسولب الفوتو والكولاج مع ادخال دلالات انسانية، الكثير من النقاد كتبوا بان تلك المرحلة كانت تتصف بالمباشرة (اقرب لمتطلبات الملصق الجداري) وبما اني فنان تجريبي، انتقلت تدريجياً الى اسلوب تعبيري اخر في مرحلة الثمانينات ومنتصف التسعينات الى الاختزال، فلم تعد اللوحة تحمل كل مواصفات المباشرة وبدأت التأكيد على رموز ذات علاقة بالاثر الانساني، لهذا، يمكن القول ان موضوعة الاغتراب الانساني لم تزل فاعلة في موضوع لوحاتي، غير انني لا امارس نفس الاسلوب التعبيري معها".
"حرب قذرة" وفترة أكثـر قذارة
صديقنا الطيب واستاذنا المتعب، محمد مهر الدين، اقام العام الماضي في العاصمة الاردنية معرضا حمل عنوان "حرب قذرة" عاد عبره الى فترته الاولى الذهبية، نقد المؤسسة الغربية الوحشية وعبر تمثلاتها الاميركية في الحرب على العراق، التي لم تكن هي "حرب قذرة" بحد ذاتها، بقدر ما انتجب فترة "اكثر قذارة"، بحسب معطيات المعرض الذي صاغ نبرة نادرة: معارضة الرعب والقسوة في اطار ينتمي الى الجمال ونقد الراهن الصاخب والفوضوي في بلاده.
تلك اللوحات في معرضه، كانت ابلغ نقد فني محكم عن المرحلة المشوهة التي لم تقتل كل امل وفسحة رقيقة في بلاده، بل ما لبثت ان قتلت صاحبها ذاته، متعبا وحيدا الا من لمسة صديق ظل يرعاه ويحنو عليه في زمن شحت فيه الرحمة وصارت فيه المشاعر المتأسية: دموعا من حجر.