((وظيفة الفن ، إعطاء الإنسان القوة تجاه الطبيعة ، والآخر ، والواقع))
أرنست فيشر
ارتبطت (شهرزاد) في ألف ليلة وليلة (ببغداد) بوصفها مكاناً إبداعياً حضارياً ، يمثل ازدهار ((العقل)) العربي ، ببعده الفلسفي – الإنساني .بغداد هذه انطوت
((وظيفة الفن ، إعطاء الإنسان القوة تجاه الطبيعة ، والآخر ، والواقع))
أرنست فيشر
ارتبطت (شهرزاد) في ألف ليلة وليلة (ببغداد) بوصفها مكاناً إبداعياً حضارياً ، يمثل ازدهار ((العقل)) العربي ، ببعده الفلسفي – الإنساني .بغداد هذه انطوت على تجليات الأزمنة ، التي عبّرت عن حكمة العراقيين ، واتصالهم بالأقوام ، والشعوب القريبة والبعيدة ، ولأن ظاهرة المسرح ، مركبة ، وتقوم على أبعاد ميثولوجية ، وأنثـروبولوجية واجتماعية ونفسية ، وأدبية وفنية ، فقد وضعنا خطة بحث ، تصفيّ أبعاد هذه ((الحكايا)) التي هي دائرة علوم ومعارف يمتح منها المبدعون مواد صالحة لأعمالهم .
وهي ترفد ((النظريات)) المتقاطعة ، والتجارب التطبيقية المتنوعة بحاضنة خلاقة من الأسانيد ، والأبعاد الرصينة ، لما يبتغونه من أهداف علمية وفنية وأدبية وفكرية . الأمر الذي اقتضى البحث في ما أسميناه (تراجيديا الخيال) المسرحي ، أن ننظر الى توسط الغريزة والعقل في نسيج رقعة الخير والشّر ، وعلاقة (الإبلاغ) بسيميائية التكوين الفني ، لإعطاء مغزى يدور بين آفاق مثالية وأخرى واقعية ، وما اقتضاه السرد في العصر الحديث من ((محاكاة)) السرديات (شهرزاد) ولكن من وجهة نظر الحداثة المسرحية ، أو القصصية . لقد اجتذبت الليالي مخيلات الغرب وأثارت عوالمها حتى (شكسبير) عبقري المسرح العالمي ، بما احتوته من أحابيل ، وصراعات ، وشخصيات إشكالية متنوعة ، وما فيها من أرواح شيطانية أو أنسيّة ، كلها شكلت في (ديوان الشرق) هذا معاني السلطة ، ومركبات الغريزة والعقل والعاطفة ، والدين والحياة .
ومن خلال تجربة (توفيق الحكيم) في مسرحية )شهرزاد( ، ستثار زوبعة على التيارات النقدية المتصادمة ، للجواب عن السؤال التراجيدي فيها ، وعلاقة البنية الحكائية بمتن ((الشهد)) الحكائي في المسرح ومن خلال معالجة قصة (تودد) الجارية ، سنرى امتداد أفقها (البغدادي) الى المعمورة كلها ، بسبب إنها كانت تضع قناع شهرزاد على وجه حكايتها ، بعبقرية عربية وإسلامية ، يعلو فيها الوعي النسوي الى أعلى مراتب التركيب الفئوي والطبيعي للمجتمع ، وسنسأل عن المؤلف العربي ، والاتجاهات الأسلوبية في الكتابة المسرحية ، لنختمها (بشهادة) كاتب هذه السطور .
((الليالي بين العقل والغريزة))
أظهرت تقلبات (الليالي) عبر حكايا شهرزاد ، رجاحة عقلها بسردها المفتوح ، تجاه المخاطب الملك (شهريار) وهو في حال سوداوية تحبسه داخل عتمة روحه المغلقة ، وغرائزه الوحشية ، وهذا ما يقربنا لما نسمّيه (تراجيديا الخيال) الذي يحتم أن تشترع المخيلة ، إما خلاصاً ، أو موتاً ، لصاحبة اللعبة الخلاقة شهرزاد. والرهان يبقى متوتراً في الحدّ الفاصل بين الخير والشر .
شهرزاد ، دفعت بشهريار لأن يرى في جمالها (عقلاً) ونبلاً يفوق ما فيها من ((غريزة)) ومتع عابرة . هذا ما يذكرنا برأي (كولردج) حين وجد أن دزدمونة في مسرحية (شكسبير) ، تحبّ عطيلا ، لأنها كانت قد رأت (وجهه) في (عقله) . مع فارق الجمالي بالطبع ، بين جمال شهرزاد وعطيل! المهم هو طموح ((العقل)) في سطوته على الآخر . حتى سايكولوجية شهريار تغيّرت ، حين جعلت قبضة غيرته وشكله المريب بجنس المرأة ، تتراخى بفعل سحر الحكاية .
بتوظيف حّر ، لفاعلية ((المعرفة)) تلاعبت شهرزاد ، بتقنيتها السردية ، المتوزعة بين اللذائذ والآلام ، لتحصر الزمن في فضاء الحضور الآني في حاضر أخلاقي ، بريء ، لا تشوبه شائبة .
((الليالي بين المثالية والواقعية))
على مدى سردياتها ، أكدّت شهرزاد على (متخيل) غائب ، أو يعتبر من (العدم) ، لكنها بتحفيز ((وعي)) شهريار ، استطاعت أن تحقق (وجود) شهريار الجديد ، المبني على الوعّي الجديد ، ما منحه ((الحرية)) للخروج من دوامة وسواسه الغريب.
لقد كسرت شهرزاد ، جرّة شهريار ، المملوءة بالشّك ، ليتناقص رملُها المرضي ، عبر محطات الحكايا ، و ((أحوالها)) لقد جعلتهُ يؤمن بالصباح وكما يقول (إيليا أبو ماضي) .
وتمتّع بالصُبح ما دمت فيه لا تخف أن يزول حتى يزولا
وربما كان وقع أزمته ، واشتدادها عليه قد قربه من الوصول الى حلّ لمعضلته المرضية كما يقول شاعر :
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلُك بالبلج
استطاعت بفضل ما تنعّمت به شهرزاد من فطنة ، أن تخرج هذا الملك المتوحش ، والمُبتلى بنعمته وسطوة ملكه ، من قوقعته الكابوسية وخواء نفسه .
حتى نقلته من شغف التملك الكلّي القدرة ، الى حالة من التوازن المعقول بمحدوديتهُ البشرية ، وحياته الواقعية . شهريار هذا بات ليله ((للتأمل)) مع الحكايا ، واقترب ((نهاره)) من ((العيش)) مع متطلبات الحياة ، وهذا ما أرادته شهرزاد منه ، أن يكون كائناً (نهارياً) وينبلج صبحه من قلب ((العتمة)) ! .
وربما مغزى ((الليالي)) الرئيس يكمن في المسار الحلقي للحكايا .إذ يرى (د. عبد الحميد يونس) ، أن الليالي ، تلّح على التعقل في السلوك والامتناع عن الشطط والتهور ، بسرد القصص ، التي استطاعت شهرزاد بوساطتها أن تحمي بنات جنسها من رعونة شهريار موظفة فيها ((الأدوات الخارقة)) . لتحقيق آمال أبطالها ، مثل الحصان الطائر وطاقية الإخفاء وخاتم سليمان والسرير الطائر . . . ونزعم انها توسلت (بالخارق) من أجل تأكيد المألوف اليومي لزوجها ، بالعقل ، لا بالمعجزات والخوارق ، لانها كانت تتحكم بالخارق من بُعد .
وقبل أن ننظر في علاقة ألف ليلة وليلة بـ(المسرح) ، لننظر في ((سرديات)) قريبة الى عصرنا ، ونتفحص إمكانية تحويل سرديات الليالي ، الى سرد مسرحي ، ونستدل على ذلك من خلال (أنموذجين) هما : (طه حسين) و (فاطمة المرنيسي) بإيجاز شديد ، وللتدليل على تصادي الحكايا القديمة مع أزمنتنا الحديثة لا أكثر .
((السرد النثري الحديث عن الليالي))
تدور سرديات (طه حسين) في (أحلام شهرزاد) ، عن الليلة ((التاسعة بعد الألف)) ، التي أفاق فيها شهريار من نومه مذعوراً ، وجعل يستمع لعله يجد ذلك (الصوت) الذي أيقظه . . إذ ما بات يسمع صوت شهرزاد والتي كان يجيبها بأن الشوق قد أرّقه لسماع قصصها العذب الجميل . وبقيت شهرزاد ، كعهده بها ، غامضة دائماً ، ساحرة اللفظ ، واللحظ ، وتشيع حولها شيئاً (غريباً) لا يُعرف كنههُ ، لكنه كان يبعث الأمن والأمل والاطمئنان . وينتهي طه حسين ببطله ، الذي يعتقد بأن (الشعوب) إنما خلقت ليرهقها الملوك والزعماء (بالحرب) و (السلم) جميعاً .
ندفعها – يقول شهريار – الى الموت حين نحارب وندفعها الى الشقاء حين نسالم .
لكن : أوقات الملوك ليست خالصة لهم من دون الرعية . هذا الدرس الذي يخلص إليه طه حسين* .
((الليالي وسرديات المرأة الحديثة))
تذكر (فاطمة المرنيسي) في روايتها (شهرزاد ترحل الى الغرب) أن ((كسوة الريش)) رسالة ترويها شهرزاد ، مفادها أن تحيا المرأة وهي متأهبة للرحيل ، حتى إن كانت محبوبة ، ذلك أن الحب في رأي شهرزاد قد يصبح ((قيداً)) وحين تنتقل الى علاقة المرأة العربية في سفرها الى (الغرب) تجد أن الغربيين والأميركان (يبتسمون لأن ((الحريم)) ، بالنسبة إليهم يرتبط بالجنس والإباحية) ، وبالطبع ، تؤكد (المرنيسي) بأن ذلك لا علاقة له بحريم الشرق البتة** ولكن تبقى سطوة ((المرأة)) ، أعلى من (هارون الرشيد) نفسه ، الذي ينشد شعراً :
مالي تطاوعني البريّةُ كُلها وأطيعُهُنّ وهنّ في عصياني