تعرفون الاغبياء الطيبين من اسئلتهم. وهذا الكلام ليس سخرية من الغباء. اذ ليس معنى الغباء في السياسة المقصود هنا، وجود نقص في القدرات العقلية. ان الكثير من اذكياء الفيزياء والاوزان الشعرية وتقنيات الميكانيك، تنقصهم خبرة السياسة. لكن هؤلاء يشكلون موجة قوية في بلداننا ويضغطون علينا جميعا وعلى صانعي القرار. لنفكر في علاماتهم اولاً.
يسأل "اغبياء طيبون" سنة وشيعة: مع من نتصالح؟ مع من يقتلوننا منذ اعوام؟ ثم يبدأون بسجال خائب حول من بدأ بالاعتداء اولاً. وكأن العدالة تتحقق عبر تحديد البادئ، في عالم تغير ولم يعد بسيطا واضحا في تلك المدن الصغيرة، وباتت تصوغ توازناته ملايين الاسباب المعولمة.
اول مغالطة ينفضح فيها الغباء السياسي، هو نسيان التاريخ العام، والانحباس في تاريخ ضيق لقضية محددة او حتى شخصية. ان هؤلاء ينبشون في مشكلة عمرها عشرة او ثلاثين او سبعين عاما، ويشعرون بانها اول مشكلة من نوعها في التجربة الكونية. وانه لا يوجد خطأ مثل الخطأ الذي وقعوا ضحية له. ولذلك لا يقتنعون بأي حل معمول به هنا وهناك.
والاخطر من هذا انهم لا يتخيلون نهاية لهذه المأساة، سوى تلك التي شاهدوها في السينما الرومانسية، حين ينتصر "الحق" نهائيا على "الباطل". ولذلك تصاغ الاحلام نحو نصر كبير كهذا يبرر الابادات والقتل ورفض اي شكل للحوار، وهو امر يحتاج ايضا تحويل الخصم الى شيطان مطلق لا خير فيه، ويستحق الحرق والمصادرة، وحين تعترض الضحية الجديدة نواجهها بصرخة من قبيل: اخرس، او اي ترجمة عراقية لها.
ناقصو الخبرة في السياسة، الطيبون المتحمسون، يعتقدون ان استخدام القوة للهيمنة هو امر واقعي، بينما الحوار امر مثالي حالم وخيالي. وانه لا بد من معادلة فيها رابح عظيم وخاسر عظيم، وهؤلاء يرفضون ان يتخيلوا نموذج "الرابح والربح" الذي تنتهي به كثير من التسويات القائمة على تنازل متبادل يمنع الابادة، والابادة المضادة.
ان الذين يصنعون التاريخ بأسلوب متقدم، سيضطرون الى اكتشاف الف اسلوب للتعامل مع "الاغبياء الطيبين"، وسيبقى صانع التاريخ متهما بأنه ياتي بافكار خيالية، والحقيقة ان وظيفة الاحداث الكبرى هي تحويل الخيال المشروع الى واقع. اذ لم يكن السلام العميق والاستقرار الكامل، حلما مشروعا قابلا للتحقق قبل ظهور القانون وقبل ظهور الحداثة السياسية، ولا يزال السلام نوعا من الواقع الصعب. كما ان الحداثة في السياسة والاجتماع كانت نوعا من الواقع الصعب الذي يحتاج اكثر الحكماء حكمة من اجل ان يتحقق. ولا بد من طريق لاقناع "الاغبياء الطيبين" بالانتقال الى تحديث سياسي يجعل السلام ممكنا، ويجعلنا اقدر على مكافحة اي ظلم، من السنة جاء ام من الشيعة.
واريد ان اختم الكلام اليوم بالتعليق على حادثة الثرثار، وكل الانتقاد الموجه للعبادي ووزير دفاعه. ان انتقاد العبادي حلال طبعا، لانه على رأس اسوأ بلد بالعالم في كل شيء، لكن علينا ان نفهم وجود مسارين في الاعتراض هذا.
الاول نمثله نحن.. كمعترضين مطالبين بالتعقل والاستفادة من الخبرات الجيدة وتطوير علاقتنا بالدول المحترمة واقامة سلام داخلي مع باقي المكونات، وعدم التلكؤ في مشاريع التحول اللامركزي والاصلاح التشريعي.
وشخصيا اجد انني وزملائي والكثير من العراقيين نكتب ونتكلم في هذا الاطار، ونعتبر من اشد منتقدي نظامنا السياسي الدستوري.
اما المسار الثاني في انتقاد الحكومة فهو تيار معاكس تماما. انه تيار غاضب على العبادي لان العبادي بدأ يفكر في اجراء مصالحة داخلية. ولان العبادي بدأ يفكر في الاستعانة بكفاءات جديدة وسياسة متعقلة ومتوازنة.
وطوال سنوات سنظل امام ضرورة التمييز بين انواع الاعتراضات، اذ ليس كل احتجاج مدعاة للفخر، وليس كل احتجاج سينتمي بسهولة لمسار الدمقرطة، خاصة وان اللعبة اصبحت منذ بضعة اعوام "على المكشوف".
"اغبياء" طيبون.. سنة وشيعة
[post-views]
نشر في: 28 إبريل, 2015: 03:18 م