يقول توماس ترانسترومير، الشاعر الذي مات قبل شهرين، ولما يمض عام واحد على منحه جائزة نوبل: "يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت ليأخذ مقاساتنا هذه الزيارة تنسى، وتستمر الحياة لكن الثوب يُخاط بلا علم منا ". قد تبدو الابيات القصيرة هذه متناغمة هناك، عند الذين تقاسموا الايام والليالي والسنوات، وأكثروا منها، حتى بدت فائضة عن حاجاتهم، دونما قول منا فيما إذا كانوا سعداء او تعساء، المراد هنا، أنهم تحققوا من انتصاف الحياة لديهم، أو اكملوا تسلق سفح الجبل الأول، وهم بانتظار هبوطهم من السفح الثاني، لكنها لا تبدو كذلك مع الذين وقفت البنادق في طريقهم، حدا فاصلا بين رغبتهم في الحياة وإصرار الآخر على انتزاعهم منها.
تعبت، امحو عن قائمة هاتفي أرقام هواتف أصدقائي المقتولين، الغائبين. بالأمس انقطعت رسائل الصباح التي كان يبعث بها عبد الكريم الغانم، رسائل عبر الواتس آب، باقات ورد مبللة بقطرات من مطر ربيعي، فناجين قهوة تضوع منها رائحة فجر ندي، عصافير ملونة. أشياء مما يبعث الاحياء به لأهلهم وأصدقائهم. احجمت طويلا قبل ان أضغط على زر المحو، وسط حيرة بين أمرين، تذكر مؤلم ونسيان أكثر إيلاماً. ما هذه ؟ انا اتقطع انتظارا للحظات يبدو أنها ستتأخر طويلاً!!
في المركبة، بين بغداد والبصرة يتصل أحدهم ليعلم صديقي الدكتور عادل الثامري بأن زميلهم، التدريسي في الجامعة مات، فجأة، هكذا ودونما إنذار من قلبه ،لم يقو على ازمة التضييق في النفس، التي تفاقمت بعجالة لا تصدق. كنت أتفرس بعيني صديقي الثامري، أسمع كلماته وهي تتقطع عبر الهاتف، جاهد، يحاول ان يجبر زميله على تكذيب الخبر، لكن شفتيه ظلتا مرتجفتين، تتوسلان مزحة خرقاء ،لن تتأتى لهن. هل أقول إن الموت عبر أزمة في القلب، حتى وإن كان في منتصف الطريق بين البيت والمؤسسة، بين السوق والبيت سيختلف كثيرا عن موت يحاصرك في بندقية وأنت آخذ الطريق الى بيت جارك، او يستوقفك على نهر لن تتمكن من عبور جسره الوحيد.
في العام الماضي محوت أسماء كثيرة، لأصدقاء ماتوا على سررهم، بين أبنائهم أو قتلوا ببندقية، بمسدس كاتم، بتفجير، ومثل ذلك فعلت مع السنة التي قبلها، منذ سنوات عشر ويزيد وانا امحو، صارت لدي قدرة عجيبة على المحو، ربما لأن تكرار المحو جعل مني مقتدرا على ضغط زر صغير لينتهي معه تاريخ وتستبدل خلاله علاقات. وهي عملية بسيطة كما يرى البعض. ها أنا أتمترس بالأصدقاء الاحياء، في تعلات أستحدثها مع نفسي، لأجعل من عملية محو ارقام القتلى والموتى معادلة معقولة، في بلاد تبتكر كل يوم طريقة للموت.
حتى وإن بدت عملية محو الارقام بسيطة، تقليدية، هنالك من انسى ارقامهم على لوح هاتفي، يموتون ويطوي النسيان صفحات تذكرهم، لكن الزمن، في لحظة خاطفة غير محسوبة، يتحرك بهم احيانا، فتنبثق أسماؤهم وأرقام هواتفهم وإيملاتهم مثل اشارات الضوء في ساحات المرور، حمراء وخضراء وصفراء. ويحدث أحيانا أن أتقصد في البحث عن احدهم، لعلمي بانه ما زال من الأحياء، على الرغم من أني لم اهاتفه من زمان، لكني أشعر بقلبي يخفق، وتتيبس أوردتي ساعة تطول رنة الهاتف ويتأخر بالرد علي. شعور مخيف ينتابني كلما تأخر أحدهم بمكالمتي، هذه الهواتف تستعدي الحياة علينا. كنت أقول إن تسمية الهاتف النقال هذا بالجوال أكثر دلالة عليه، فهو موكول بالتجوال معنا، لا نريده بعيداً عنا، نحن نربك اهلنا وأصدقاءنا ساعة نتأخر في الرد عليهم. الموت وحده من يتحكم هنا. لن تشغل المسرات أحدا ً منا، فهي سواء تأخرت او تقدمت.
في زاوية ميتة من الهاتف فوجئت بمقبرة صغيرة، مقبرة احتفظت بعشرات الاسماء التي حذفتها، الهاتف الذكي يسميها ( تم حذفها مؤخرا) لم أتنبه لها من قبل، كنت أظن أن الاسماء والارقام والكلمات التي تخلصت منها ذهبت مع اصحابها، ما ذا أفعل، هنالك من لا يريدني التخلص منه.
مقبرة الهاتف الجوال
[post-views]
نشر في: 28 إبريل, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...