(2-3)
قلنا إن (قانون القصائد) يشكّل واحداً من خمسة كتب مقدسّة في الصين، خلال فترة عائلة هان الغربية التي اعتمدت الكونفوشيوسية أيديولوجيةً رسميةً، ثم أصبحت هذه النصوص جزءاً من المناهج الدراسية التي ترعاها الدولة، وكان يُنظر إليها كمجموعة مترابطة واحدة. وتتكون من (قانون القصائد) أو الشعر الكلاسيكيّ أو الكتاب المُقدَّس للشعر، و(كتاب الوثائق) والخطابات المنسوبة إلى حكام فترة زْهُوو وقبلها، ومن أقدم نماذج السرد الصينيّ، ولعله يرقى إلى القرن الثامن ق. م. و(كتاب الطقوس) والشعائر القديمة واحتفالات البلاط. أعاد جمع النسخة الراهنة منه مثقفو البلاد في القرن الثالث ق. م. وهو ليس النص الأصليّ الذي يُزعم إن كونفوشيوس قد حرّره. ثم (كتاب التحوّلات) المتعلق بنظام العرافة والضرب بالرمل الذي ما زال مستخدماً على نطاق واسع لهذا الغرض نفسه. وأخيراً (حوليات الرباع والأخارف) وهو السجل التاريخيّ لدولة لو التي وُلد فيها كونفوشيوس (722-481 ق. م.). ويضاف أحياناً لها (كتاب الموسيقى الكلاسيكيّة) الذي يُعتبر عملاً سادساً مفقوداً بسبب حرْق أحد أباطرة البلاد للمخطوطات عام 213 ق.م.
عندما تُستخدَم الصفة (مقدّس) لأنطولوجيّا الشعر الصيني القديم،ّ الشهير باسم (قانون القصائد)، فليس هناك ظلّ من ظلال مقدَّسنا التوحيديّ، لأن الصفة تشير بالأحرى إلى (الروحانيّ) و(الرفيع) و(المعياريّ) بمعنى الميّزة الحكمية والقانونيّة والأخلاقية، كما تراها الكونفوشيوسية. بل أن العديد من قصائد هذه الأنطولوجيا تمثل قصائد دنيوية، ريفية، وغزلية شبه إيروتيكية.
لنأخذ المقطع الثالث (I. 1) على لسان فتاة في الغالب: "أقطفُ، أقطفُ ثمرة القرطب! - لا أملأ السلة - للأسف! أنا أحلمُ بهذا الرجل! - وأتركه في الدرب! - تسلقتُ الجبل المليء بالصخور: - خيولي منهكة! ...- للشرب أسكبُ لنفسي من هذا الإناء الذهبيّ - لكي لا أظلّ أحلم بلا هدنة!...- تسلقتُ التل العالي: تفتقد خيولي بهاءها! ... - أسكبُ لنفسي للشرب في قرن وحيد القرن - لكي لا أعاني دون هدنة!....- تسلقتُ الجبل المليء بالرمل: - جميع خيولي متهالِكة! ... - قائدي مريض!... - للأسف! للأسف! أنا أئنُّ!". ثم في المقطع السادس (I. 1) على لسان الشبّان في الغالب وهم يُعَرِّضُون بفتنة الفتيات: "يا لنمو شجرة الخوخ الباهر! - يا لكثرة أزهارها ! ستتزوج الفتاة: - ينبغى أن نصير زوجةً وزوجاً! – يا لنمو شجرة الخوخ الباهر! - يا لكثرة ثمارها! - ستتزوج الفتاة: - ينبغى أن نصير زوجة وزوجاً! - يا لنمو شجرة الخوخ الباهر! - يا لثراء توريقها! - ستتزوج الفتاة: - ينبغى أن نصير سَكَناً لبعضنا! " (من ترجمتي).
إن هذا النمط من المقدّس لا شأن له بنسخة (الدينيّ) المعروفة لدينا. فهو يخلط الإيروتيكا بالفاعلية الوجودية الكبرى، مثله مثل أرفع نماذج شعرنا الشعبيّ العربيّ. ولا شيء من الغرابة في ذلك، لأسباب واضحة. صحيح أن الجزء المهمّ من (قانون القصائد) يتشكل من القصائد الشعبية التي تسمّى (قِوَهْ فنغ)، لكن في هذه التسمية تكمن الآن، خلاف شعرنا الشعبيّ بعض أسرار المفاهيم الشعرية والأسس الجمالية لكتاب الشعر الصينيّ برمته، فإذا كانت (قِوَهْ) تعني بلاد أو إمارة ، و(فنغ) الريح، والهبة التي تثير النفوس وتحوِّل القلوب، فمن هنا يأتي "نفوذ" الأولى أو "هواؤها" الموسيقيّ، ومن هنا يُترجم الكتاب أيضاً تحت عنوان كتاب الأغاني.
ثمة مبدأ شعريّ صينيّ يقوم على أساس العلاقة بين التشي، المفردة التي تُعادِل حرفياً كلمة شِعْر العربية، وفيه يقع سرّ الكلام، من جهة، ومن جهة أخرى طابع الـ (زِهِيْ) وهو الإرادة والمثال الأعلى الذي ينطوي على سرّ القلب. الـ (زِهِيْ) حالة القلب الكامنة، المُعبَّر عنها بالكلام، التي ستتحقق في كتابة الشعر (التشي). الشعر في نهاية المطاف يتحدّد بأنه الأمر الذي "يتَّجه نحوَه المثال الأعلى".
(يُتْبَع)