بدأت مثل كثيرين غيري، قراءة روجيه غارودي في نهاية السبعينات، ليس فقط كتبه في شرح الماركسية ونقده العنيف لبعض حراسها المتجهمين، وانما دراساته في مجال الأدب، وكنت اشعر بفرح غامر حين اعثر على كتاب جديد له، غارودي المتعدد الثقافات كان بالنسبة لي مثل السحرة الذين قرأت عنهم في الف ليلة وليلة، مرة أراه كاتبا ساخرا، وفجأة يتحول الى فيلسوف، يجادل أفكار المعلمين الكبار.
عندما توفي قبل ثلاثة اعوام عن 98 عاما، كان قد عاش قرناً من التحولات السياسية والفكرية، باعتباره من الاساتذة المرموقين للفلسفة في العالم، وظل يقول دائما: إن الأثر الفلسفي سيظل مرجعية فكرية، فيما تتحول الاعمال الادبية الى مجرد قصص للتسلية، اليوم لا أحد يعود الى كلاسيكيات غارودي الفلسفية، بينما روايته الوحيدة "من اكون في اعتقادكم" تحتل كل عام مكان الصدارة في مبيعات غاليمار.
أتذكر أنني أعدت قراءة رواية غارودي أكثر من مرة، أحياناً اراجع فصولا فيها وأحايين اخرى اقتبس منها اشياءً واشياءً، وقد وقعت في سحرها وما أزال اعتبرها واحدة من كتبي المفضلة.. وفي كل مرة أجد نفسي إزاء حكاية عن جيل يريد ان يجد له مكانا تحت شمس البلاد، في تقديمه للرواية يقول غارودي: "إن بطلي الرئيسي ينتمي إلى جيل يبهرني.. الجيل الذي يعاني أحلام جيفارا، وقلق الساسة الملفقين".
يعيش بطل غارودي مع رفاقه لحظات حوار ساخن وشيق حول الحرية والتسامح ونسيان الماضي، في الوقت الذي يريد منهم الساسة ان يتخلوا عن افكارهم، ويقول لرفاقه مشجعاً: "إن أخطر الاعداء هو الحقد، والأمر الجوهري هو ألا ننظر الى الماضي بـأسى ".
في واحدة من أجمل حواراته يحاول غارودي من خلال أبطاله ان يعلمنا معنى ان تتربى الضغينة في احضاننا "في هذا العصر ارى ان الظلم قد توزع على الجميع.. ولا دواء للخوف إلا بإعلاء شأن المحبة ومحاربة الكره، وان نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده ثقافة التلفيق "
في مدن الثأر تغيب العدالة وتصبح الديمقراطية، مجرد واجهة لسرقة احلام الناس ومستقبلهم، لتتحول إلى شعارات وخطب يلقيها علينا صباح كل يوم مجموعة من الانتهازيين والطائفيين، الذين يستخدمون سلاح التلفيق من اجل تعزيز الخوف والمخاوف، وربط استقرار البلاد بغرائز ساستها، وتحفيز المواطن على الكراهية، واستخدام جوقات من الكذبة المحترفين. وتضخم الأكاذيب وتقلل من حجم الحقائق، وتغليف الهزيمة والفشل بانتصارات مزعومة.
عندما قرر المالكي ان يترك كرسي رئاسة الوزراء، قلت في نفسي، لقد أفاق، او استُفيق، وسيرى وجوه العراقيين وزمنهم الضائع، ويطلب منهم نسيان الماضي والسعي لبناء بلد المواطنة، لا بلد الطائفة والعشيرة، ولكنه في كل يوم يصر على ان يذكرنا بخطاب قائد الشرطة المحال على التقاعد في رواية غارودي "انهم يريدونني ان انسى هذا الكرسي، يا سادة انها مسألة حياة او موت".
حيـاة أو مـوت
[post-views]
نشر في: 4 مايو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ام رشا
مقال رائع كالعادة ليت سياسينا يقرأوا ليعوا ان من اوصل البلد لما وصل اليه هو الحقد والكراهية وعدم نسيان الماضي ولا سبيل لإنهاء ذلك الا بالحب والتسامح و نسيان الخلافات و الاحقاد ،شكرا لك أستاذ لأنك دائما تغسل عقولنا وقلوبنا بثقافتك وتنويرنا بتجارب الآخرين