TOP

جريدة المدى > عام > فصولٌ من السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم 25

فصولٌ من السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم 25

نشر في: 6 مايو, 2015: 12:01 ص

 عندما هبطنا من الطائرة في اوسلو كان البرد يقطعُ الأنفاس ، ولحسن الحظّ وجدْنا ممثّلاً عن المجلس الثقافي البريطانيّ ينتظرنا وقد أوصلَنا فوراً إلى فندق الكونتننتال الراقيّ الّذي أقمنا فيه للايّام الستّة اللاحقة ، وللمرّة الأولى أدركْتُ بكلّ وضوح أ

 عندما هبطنا من الطائرة في اوسلو كان البرد يقطعُ الأنفاس ، ولحسن الحظّ وجدْنا ممثّلاً عن المجلس الثقافي البريطانيّ ينتظرنا وقد أوصلَنا فوراً إلى فندق الكونتننتال الراقيّ الّذي أقمنا فيه للايّام الستّة اللاحقة ، وللمرّة الأولى أدركْتُ بكلّ وضوح أنّني ولِدْتُ في البلد الخطأ : فالبريطانيّون كائناتٌ مصمّمةٌ بعقولٍ بديهيّة و اعتياديّة و لا يمكنُ إصلاحها و ربّما حصل هذا لهم - بحسب استنتاجي – بسبب انزوائهم في جزيرتهم الصغيرة الآمنة لفترات طويلة إذ لم تتعرض الجزر البريطانيّة للغزو منذ عام 1066 لذا لم يكن وارداً في المزاج البريطانيّ إنتاج نسخة إنكليزيّة من دوستويفسكي أو غوته أو حتّى سارتر.

 
و في إنكلترا ليس من المعتاد طرح الأسئلة الّتي كتبْتُ عنها في كتابي ( اللامنتمي ) و ( الدين و المتمرّد ) : الأسئلة الّتي وصفها رينهولد نيبور Reinhald Niebuhr )) بأنّها تدور حول "طبيعة الإنسان و مصيره الوجوديّ" لذا كان من المثير لي أن أجد نفسي في بلدٍ يتعاملُ مواطنوهُ مع هذه الأسئلة الوجوديّة و أمثالها بقدرٍ عالٍ من الاهتمام و يفردون لها أسبقيّة مميّزة وربّما ساهم الشتاء الإسكندنافيّ القاتم في إضفاء سمةٍ من الجدّية على مزاج الإسكندنافيّين ولكنّي وجدْتُ هذا المزاج متجانساً ومنضبطاً ويتناغمُ تماماً مع طبعي ومزاجي . كان فندقنا الّذي نقيمُ فيه في مقابل المسرح الّذي ينتصبُ أمامه تمثالٌ مهيبٌ لِـ ( إبسن ) و اكتشفْتُ خلال مناقشاتي مع الصحفيّين أنّ الأدب يُعدُّ موضوعاً باعثاً للدهشة وأنّ الأفكار يمكنُ أن يكون لها تأثيرٌ عظيمٌ - أكثر ممّا نتوقّع – في تشكيل المستقبل . وحصل أن مضيْتُ في إلقاء أوّل محاضرةٍ لي بعد ظهر يوم سبت و كانت صالة المحاضرة واسعة و جلس الطلّاب الجامعيّون حول موائد أعدّت لهم في القاعة وهم يتناولون البيرة ويستمعون بكلّ إصغاءٍ واهتمام لما كنتُ أقوله ، وخيّل لي أنّ كلّ واحد منهم كان يفهم الإنكليزيّة ويتكلّمها بطلاقة ، وعندما أكملْتُ محاضرتي كان ثمّة فاصل راحةٍ انطلقت فيه فرقةٌ لرباعيّ وتريّ تعزف مقطوعاتٍ لكلّ من ( برامز ) و ( نيلسن ) . 
أردْتُ من وراء محاضرتي الأولى في الأصقاع الإسكندنافيّة مقاربة الحقيقة التالية : لِمَ أنا مسكونٌ بروحٍ تفاؤليّة - قد تبدو سخيفة للبعض – في عصرٍ تغلبُ عليه روح التشاؤم و الخذلان ؟ كانت نقطة الشروع في محاضرتي هو حديثٌ عام عن الوجوديّة السائدة و بخاصّة وجوديّة هايدغر و سارتر وأوضحْتُ لمَ كانت نظرتهم تجاه الوجود البشريّ تطفحُ بالسلبيّة ، و حكيْتُ للحضور باستفاضة كيف أنّ تجربتي في هذا الميدان تعاكس التوجّه الوجوديّ التشاؤميّ السائد وأنّ هذا لم يكن نتيجةً لمجرّد امتلاكي مزاج منشرحٍ بصورة طبيعيّة ولكن لأنّني في كلّ مرّة أمضي في نزهةٍ صباحيّة ربيعيّة أو أستمعُ إلى الموسيقى أغدو أكثر وعياً بالمعنى الكامن في حياتنا وهو المعنى الّذي يبدو لصيقاً بالكون ويبدو نتاج ذكاءٍ كونيّ يقبعُ خارجاً عنّا ، وأنّ الموسيقى والشعر وكلّ الفعاليّات المعرفيّة العظيمة الأخرى إنّما تسهمُ في توسيع مساحة النافذة الّتي يطلُّ منها وعيُنا على هذا الذكاء الكونيّ . وعندما يحصل هذا يغمرني شعورٌ بامتلاك حسّ أعظم بالمعنى الكامن في حياتنا وقد تصل الأمور معي حدّاً قد أخشى فيه أحياناً فتح نوافذ وعيي الذاتيّ أكثر ممّا فعلْتُ خشيةً أن يجتاحني طوفانٌ يغرقني تماماً ، وهذه هي قِصّتي باختصار والّتي تروي محاولتي المضنية والعنيدة في المضيّ لخلقِ نوعٍ غير متداولٍ من وجوديّة بعيدة عن محدوديّات التشاؤم واليأس والخذلان . 
أثبتت النتائج المترتّبة على زيارتي إلى أوسلو أنّها كانت مدهشة رغم أنّ العديد من الطلّاب وجدوا صعوبةً هائلة في مشاركتي حسّي التفاؤليّ وبدا لهم العالم مكاناً عصيّاً على العيش المتوافق لانّهم كانوا ممتلئين بشعور عميق من عدم الرضا ، و لكنّ حدسي ما فتئ يخبرني آنذاك أنّني لو قيّض لي المكوثُ لفترةٍ أطول والإنغماس في سلسلة محاوراتٍ جادّة مثل هذه فربّما كان معظم الحاضرين سيغيّرون قناعاتهم السلبيّة ويشاركونني رؤيتي التفاؤليّة في نهاية الأمر . تشاركْنا جميعاً بعد نهاية المحاضرة في حفلةٍ صاخبةٍ امتدّت حتّى الثالثة بعد منتصف الليل وأنهكت قوانا تماماً لذا لم يكن غريباً أن أجد نفسي صباح اليوم التالي في الفندق وأنا أُعاني التهاباً حادّاً في حنجرتي وأعراض أنفلونزا مؤلمة فلزمت سريري واقتصرْتُ على تناول شراب الليمون الساخن مع أقراص الأسبرين و قضيْتُ معظم الوقت في قراءة رواية جيمس جونز ( من هنا و إلى الأبد( From Here To Eternity الّتي راقتْني إلى أبعد حدّ : فقد كان كاتبها يكتبُ كما يفعل أيّ أستاذٍ متمرّس في حرفته و أردْتُ لكتابي القادم ( طقوسٌ في الظلام ) أن يكافئ كتاب جونز من حيثُ الصنعة والتأثير ، لذا فكّرتُ أن أروي ما أردتُ كتابتهُ في كتابي على هيئة قصّة أو سرديّة بسيطة ونسيان ما كنتُ اعتزمْته أصلاً في محاكاة عمل جيمس جويس ( كتاب الموتى المصريّ The Egyptian Book of the Dead ( ، و رغم معاناتي المريرة من التهاب حلقي وخفوت صوتي فقد مضيْتُ فعلاً وألقيْتُ محاضرة مساء ذلك اليوم في الجمعيّة الأنكلو - نرويجيّة . وبعد نهاية المحاضرة غاب صوتي تماماً و تطلّب الأمر منّي البقاء ليومٍ إضافيّ في السرير في محاولة لاستعادة قواي المنهكة وأثبتت إحدى أنواع البيرة النرويجيّة القويّة المسمّاة ( Julol ) - الّتي تُطرح في السوق أيّام أعياد الميلاد فقط – فعّالية ملحوظة في إعادة صوتي إلى حالته الطبيعيّة . تسبّب الضباب الكثيف في مكوثنا ليومٍ كامل في مطار أوسلو بعدما اعتزمْنا العودة إلى إنكلترا ، و تلقّيتُ صباح اليوم التالي وقبل مغادرتنا رسالة تلغرافيّة من بيل هوبكينز يخبرني فيها أنّه في طريقه إلى هامبورغ وكان يطلبُ إليّ الانضمام إليه هناك فاعتزمنا أنا و جوي على تغيير مسار رحلتنا والطيران إلى هامبورغ بدلاً عن لندن وأثبت قرارنا هذا لاحقاً أنّه كان خطوة موفّقة : فبعد وصولنا مطار هاميورغ استأجرتُ تاكسياً أخذنا إلى العنوان الّذي أعطانا إياه بيل وعندما وصلنا دهشنا لرؤية بيل جالساً على عتبة الباب وكان يبدو شاحباً وضعيفاً وفهمنا منه أنّه لم يأكل منذ أربع و عشرين ساعة الماضية لأنّ ناشر كتابه ( المقدس و الخراب ) كان وعده بعلاوةٍ أسبوعيّة و لكنّ العلاوة لم تصلْه في ألمانيا فأعرناه بعض المال على الفور ثمّ مضينا ثلاثتنا إلى فندق قريب وانطلقْنا بعدها إلى حانة قريبة من الفندق ، و كان طقسُ هامبورغ حينها لا يختلف كثيراً عن مثيله في أوسلو لذا نصحَنا بيل بتناول مشروب قويّ من ( الروم ) ثمّ تناولْنا وجبة هامبورغيّة رائعة ، وأثناء تناولنا الطعام كنّا نصغي جميعاً إلى موسيقى شعبيّة ألمانيّة ملأتْنا بدفقاتٍ من السعادة و التفاؤل و قرّرنا في لحظةٍ مفاجئة أنا و جوي أن نمضي بقيّة الأسابيع الأربعة القادمة مع بيل وأن نغادر جميعاً إلى لندن قبيل أعياد الميلاد لتلك السنة . كانت رواية ( المقدس و الخراب ) لصديقي بيل قد نُشرت حديثاً وكان مقدّراً لها منذ البدء أن تُغضِب النقّاد اليساريين لانّها كانت تحكي عن سياسيّ رتّب لإنفصاله عن أحد الأحزاب اليساريّة والتحوّل نحو الجناح اليمينيّ و مضى لينعزل في جزيرة بعيدة في محاولةٍ لالتماس العذر لتخاذله عن نُصرة صديقه السياسيّ المقرّب الذي اغتيل لاحقاً وكان من المتوقّع أن يسبّب السلوك الميكيافيللي غير المبرّر لهذا السياسيّ الكثير من الّلغط والنقد الجارح من قبل النقّاد وقد حصل هذا فعلاً . 
أثبتت هامبورغ أنّها مدينةٌ رائعة للغاية و يمكنُ للمرء أن ينعزل فيها و يبتعد عن سماع تعليقات النقّاد القاسية ، وكانت المدينة تحفّز المرء على خلق إحساسٍ طبيعيّ بنسيان كلّ المنغّصات الّتي يمكن أن تثلم بهجة الحياة ، وهكذا عملْتُ طيلة ثلاثة أسابيع متواصلة مكثتها هناك بكلّ إنضباطٍ و صرامة : كنّا نتناول الفطور ثمّ ننطلق فوراً إلى معارض الكتب و عندما نعود كنّا أنا و بيل نعمل على مسوّدات كتبنا فيما كانت جوي تقضي وقتها في القراءة أو التمتّع بمشاهدة المدينة ، و كان يحصلُ أحياناً أن نجد أنفسنا و قد انغمرْنا في مناقشاتٍ مع الطلبة الذين كنّا نتناول الطعام معهم في مطاعم الطلبة في ( Schulterstrasse ) و كانت أغلب أحاديثنا تتناول موضوعات السياسة وألمانيا المقسّمة ولاحظتُ أنّ الكثير من الطلبة كانوا ميّالين إلى الأفكار اليساريّة و يؤيّدون بقوّة دعوةَ ماو الثوريّة في ( التقدّم بقوّة إلى الأمام ) . كان بيل قد سبق له مشاهدة مدينة هامبورغ عقب نهاية الحرب العالميّة الثانية مباشرة أثناء أدائه الخدمة العسكريّة الإلزاميّة وكانت المدينة لا تزال بعدُ حطاماً من أثر غارات الحلفاء الكثيفة و كانت بحيرتها المعروفة المسمّاة ( ألستر Alster ) لا تزال تحوي قطعاً من اللحم البشريّ المتعفّن لضحايا تلك الحرب المأساويّة . كان بيل قدِم لزيارة هامبورغ ليذكّر نفسه بأجواء الحرب القاتمة إذ كان بطل روايته الثانية فرداً سبق له العمل في القوّة الجويّة الملكية البريطانيّة ، و كنّا أنا و جوي عقدْنا العزم على المكوث في هامبورغ حتّى رأس السنة الجديدة ولكنْ قبل أسبوعٍ من حلول أعياد الميلاد كان الحنين قد استبدّ بنا لذا قرّرنا الرجوع إلى لندن على الفور ولم يرغب بيل في مرافقتنا لانّه لم يكن يفضّل ركوب الطائرات وعاد لاحقاً عبر القطار وحكى لنا فيما بعدُ تفاصيل رحلة عودته القاسية الّتى عانى خلالها كثيراً من البرد و المواقف المزعجة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. muneeb

    على الرغم من كوني كنت من المعجبين بكتب كولن ولسن اثناء المراهقه والشباب ال اني اجد الان ان اطلاق كلمة الفيلسوف كثيره عليه يمكن ان يقال عنه انه هاوي اوشارح فلسفه

  2. muneeb

    منقول من ويكيبيديا كولن ولسن انه من الغريب ان كولن ولسن قد حقق شهرة كبيره في العالم العربي لانه لا يكاد يكون معروفا في بلدان اوربيه عديده ولم يعترف به ككاتب جاد ابدا اتجه بعد كتاباته الادبيه الى الكتابه عن التصوف والسحر وعالم ما بعد الموت يصنف كولن ولسن ف

  3. قاسم التميمي

    حاول هذا الكاتب من خلال اطلاعه الواسع والساعات التي لا تحصى والتي قضاها في المكتبة البريطانية في لندن ان يكتب الرواية الانثربايلوجية التي اقحمها بالبدائية والسحر مثل الهة المتاهة غير انها لم ترقى الى مستوى ضياع في سوهو التي يروي فيها الجزء البائس من حيا

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram