مارس العراقيون الأوائل — مبكرا — فنون الكتابة بعد اختراعها. ومبكرا جدا، استوعبوا الفباء العلوم والفنون والآداب، وخبروا اسرار الأنواء، وتنبأوا بمواعيد هطول المطر واوقات جيشان العواصف ومواقيت سكون الريح..
نجحوا في ترويض بعض الحيوانات الضارية، وسخروها لخدمتهم: أليفة مطواعة. لكن العراقي - على وجه الخصوص والعموم — اخفق في معرفة مكنونات ذاته، فشل في ترويض نزعاته الجامحة، وتقنين شهواته المتعاظمة نحو السلطة (التسلط)والثروات (الاكتناز) والجنس (دون حدود). عجز ان يجعل ذاته قانعة، ومتسامحة وأليفة.
بلى،، ربما هي مزايا شعوب الأرض اجمع. لكن العراقي - يقولون - طبعه التطرف حتى في قولته: السلام عليكم. مجبول على النواح والحزن حتى في مواسم الأعياد.
………..
ليس الإنسان العراقي - وحده - من ينتحب، سرا وعلانية، كتب المكتبات التي كانت عامرة بأصحابها تشاركه حزنه الأزلي، وتنتحب بصمت مرير، ولكن ما من أحد يصيخ السمع
………..
برر صديق قديم— وهو على سرير المرض - فعلته - وانا اشدد عليه باللوم على بيعه مكتبته العامرة:
— ما العمل؟؟ ها؟ انا لا أجيد فعلة التوسل والاستجداء. فقدت ولدي في عملية تفجير وكان في طريقه للعمل، قضت زوجتي نحبها حزنا وكمدا، ابنتي المتزوجة هاجرت بأسرتها لبلاد بعيدة … ماذا علي ان اؤدي من واجبات دون حقوق بعد اربعين سنة خدمة، ها؟ مبلغ التقاعد شحيح، والنفقات باهظة، وأسعار الأدوية تتقافز بمتوالية هندسية:٢-٤-٨ دون رقابة او رادع عقابي، ذات يوم ساومني تاجر علي بيع مكتبتي.. رفضت، كيف يقايض الإنسان قطعا من كبده بفلوس؟؟عدت بعد حين اساومه بعد ان ضاقت ذات يدي واشتدت حاجتي، قلت ابيع مضغة كبدي ولا امد يدي ذلا وتوسلا …..
ذات ضحى حضر عمال مستعجلون، عبأوا الكتب - وهي زادي وشرابي — عبأوها حشرا في أكياس جنفاص (نسميها كواني)، وذهبوا بها،،،،، قال لي من اشتراها: لا تبتئس، انت محظوظ ورابح، اما انا فخسارتي محتملة، قد ابيع الكتاب بـ(خمسمية) وحين يشح عدد المشترين، اعرضه بربع!!!
قال مواسيا وهو يلمح دمعة مكابرة تترقرق بين الجفن والمقلة: لا عليك، لم يعد في العمر بقية لفض تلك الكنوز.. اين مكتبة جبرا إبراهيم جبرا؟ قيل إنها سرقت بعد احتراق الدار،، ومكتبة علي الوردي. أينها؟؟ قيل إنها مطمورة في قبو يتسلل اليه الماء إثر كل زخة مطر،، وكتب عبد الرزاق الحسني؟ ومكتبات: جعفر الخليلي، ويوسف الصايغ؟ وعلي جواد الطاهر / وغائب طعمة فرمان؟ ومدني صالح ومئات غيرهم ….
………
اعود للبداية، واستعير مقولة قيلت بحق (كلكامش): هو الذي رأى. احاورها، فتخرسني مدلولاتها، بلى هو - العراقي - الذي رأى، لكنه لم يرعوِ، لم يتعظ، لم يعتبر ولم يتدبر،، بل صار عبرة لمن اعتبر.!
؟.
بعد اربعين سنة خدمة؟ ها؟
العقل في إجازة.
[post-views]
نشر في: 6 مايو, 2015: 09:01 م