حين نختلف حول وضع نهاية مناسبة لحروبنا، علينا ان نفكر من زاويتين: اولاً، كم نؤثر نحن في قرارات اشعال الحروب واطفائها؟ وثانياً: لماذا اشعر وامثالي بالتعب من الحروب الطويلة التي بدأنا بها طفولتنا، بينما لا يشعر اخرون بتعب مماثل، وكأنهم يبدأون حربهم الاولى الان؟
في الزاوية الاولى، علينا ان نعترف بان خبرتنا في السياسة بعد عقود من التشرذم والموت والجوع، اقل من ايران والخليج وتركيا فضلا عن اميركا. واذا كانت هناك لعبة شطرنج سياسي بيننا وبينهم فانهم سيتفوقون من جوانب كثيرة، فنحن منذ اربعين عاما كنا مشغولين بالموت عن الحياة، بينما تفرغ جيراننا لاشياء اكثر اهمية.
جيد، الجيران اشطر، واميركا قوة ثقافية وعلمية وعسكرية لا تجارى، ولكن يبقى للداخل ان يكون فاعلا اذا استطاع اللجوء للحكمة. ان تأثير الخارج في الداخل لن يكون سهلا اذا حاول الداخل ان يتماسك ويفرض وجهة نظر مقبولة، تتفق ومصالح الحد الادنى من الاطراف المؤثرة.
ومهما قيل عن قوة الخارج، فاننا شهدنا خلال الاعوام الماضية استعراضا طيبا للقوة قامت به القوى الوطنية، ضد سياسات التفرد والحمق، وجاءت بنتائج مقبولة. ومع الاسف فان ظهور داعش جعلنا ننسى تلك المنجزات النسبية، وننقسم بشكل فوضوي، ونسمح بتدخلات اقوى اقليميا ودوليا. وبالنتيجة فلم نكن مفاوضين جيدين مع المحيط الاقليمي والدولي طوال الشهور الستة الماضية. لكن الاوان لم يفت، وقد برهنت واشنطن وطهران على انهما يستطيعان التلاعب باعصابنا في اكثر من ملف، استغلالا لنقص التفاهم الداخلي. والفرصة قائمة لتخطي هذا.
اما الشق الاخر من حديثي فيكرر تناول هذا السؤال: لماذا اشعر وامثالي بالتعب من الحروب الطويلة التي بدأنا بها طفولتنا، بينما لا يشعر اخرون بتعب مماثل، وكأنهم يبدأون حربهم الاولى الان؟
لقد بدأت حرب بين العراق وايران قرب مسقط رأسي على شط العرب. كان عمري حينها، ثلاثة اعوام واربعة شهور بالضبط. ومنذ ذلك الحين بقيت انا وجيلي، بين الموت والنزوح والهرب والجوع والمنافي، حتى هذه اللحظة. انا الطفل يوم اندلاع الحرب، اوشك على بلوغ الاربعين، لكن الحروب لا تنتهي. لكن جيلي ينقسم بين امثالي المتمسكين بضرورة انهاء الحرب وتقديم تنازلات محسوبة لهذا الغرض. وبين تيار اخر لا يجد اي مشكلة في ان يتواصل الموت والعراك، تحت رايات كثيرة ومبررات متنوعة.
ليس في وسعنا بخبرة سياسية متواضعة، ان نوقف الحرب التي تنشب في العراق وتتشعب اسبابها نحو البحار القريبة والحدود البعيدة. لكن في وسعنا دونما شك، ان نتحكم في درجة الحرارة لهذه الحرب. فكل لحظة حماقة ستمتح الاخرين فرصة ان يفاقموا الكارثة. وكل لحظة تعقل ستجبر الجميع على التهدئة. ومهما كان العراق ضعيفا فانه يبقى قوة تمتلك مقومات الدور الكبير. لكن سؤال الطفل الذي تفاجأ بالدبابات على ضفة شط العرب قبل نحو اربعة عقود، لن ينتهي: لماذا بعد زمن طويل من الموت، لا يجد الناس رغبة في انهاء الحرب؟
ان انهاء الحرب لا يتطلب استسلاما للخصم، ولا للذبح. بل ايمانا بجدوى السياسة، التي تعلن اولا ان الامة تشعر بالملل من الحرب. وتؤمن بان الحياة تستحق التنازل من اجل ان يستقيم الاستقرار. وحينها سنطرد الف شعار كاذب، وسنمنح للرياضيات وحساب المصلحة، ان ترسم مستقبل الايتام والفقراء والمساكين، ليعثروا على حياة طبيعية مشروعة بعد عقود من الموت والفقر والتخلف. وحينها لن نكون حالمين، ولن نلقي السلاح، بل ان السلاح والقوة سيتحولان الى اداة لتطبيق الحلول العقلانية، التي تقنع الداخل كي تتفاوض مع الخارج. اما اذا لم نشعر بملل من الموت فاننا لن نعثر على سبب للتصالح، لاننا لم نعثر على مبرر لحياة جميلة ولذيذة، فنقرر احراق العالم والانتحار، بدل ان نرسم ممكنات الجمال فيه. وعلى مر التاريخ افترقت الحضارات هنا، فتقدمت او انقرضت.
مالهم لا يتعبون من الحرب؟
[post-views]
نشر في: 6 مايو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ياسين عبد الحافظ
مقال حيوي، اود التداخل بما يلي:لا بد لاى حرب حقيقية ان تنتهى بالاستسلام الغير مشروط،وهذا ماحصل في الحربين الاولى والثانية،وما يترتب على الاستسلام الغير مشروط هو يشبه الاستسلام للذبح وللخصم،ويترتب على ذالك عواقب يتحملها الشعب والطبقة السياسية وجنرالات