كان الافرنجة قبل الف عام يبحثون في "العهد القديم" عن نبوءة حول مصير الامبراطوريات الاسلامية، واعتقدوا ان الخليفة هو المسيح الدجال، الذي سيعني ظهوره قيام الساعة. لكن ريتشارد سوذرن في بحث مكثف ترجم قبل ربع قرن تحت عنوان "صورة الاسلام في اوربا القرون الوسطى"، يرصد كيف نجح اذكياء اوربيون في انتزاع الصراع السياسي مع الاسلام، من بطون التأويلات اللاهوتية، وحاولوا عقلنته، (وقالوا ان المسيح الدجال "اكثر فخامة" من الخليفة المسلم البدائي). فرفعوا حظر الكتب العلمية التي انجزها المسلمون، وترجموها وبدأوا بفهمنا بشكل براغماتي، سهل عليهم تحقيق تقدم مع انفسهم، ومعنا بالتأكيد.
وليس حالنا اليوم سوى لحظة تشبه كل ذلك التخبط الافرنجي في صوغ معاني الصراع، اذ ان خلافاتنا السياسية الداخلية كمسلمين تطورت الى درجة رهيبة تشبه عصر الكراهية اللاعقلانية في القرون الوسطى، ما جعلنا اسرى التأويل العقائدي، الذي يستخدم تناحر الفتاوى السنية الشيعية، في تعبئة الشباب على الجانبين، وجعلهم مستعدين للانخراط في اسوأ اشكال الذبح المقدس.
وربما لم يسبق للمسلمين تاريخيا، ان انشغلوا بهذا القدر الواسع من التكفير المتبادل، عبر الفضائيات المخصصة للثرثرة المذهبية، وكل هذا الاستخدام الطائفي للانترنت. كل فريق يشيطن خصمه، ويرسم خرائط للسفياني والخراساني واليماني، ويبحث عن نبي جديد "يبيد" الفرق الضالة. ويتفاقم الامر بالساعات، فالنقاشات تقوم بإسكات العقلانية الممكنة، والقراءات "الاستراتيجية" لدى الطرفين باتت مجرد ترجمة لكراهية زخر بها الخلاف العقائدي، بحيث غابت اي جهود معقولة للبحث عن صلح او سلام بين الطائفتين المنكوبتين، والجميع يضغط على الزناد انتظارا للحظة ابادة حاسمة.
ان سوريا والعراق وما اتصل بهما من ملفات، يمثلان اليوم اختبارا ثقافيا واخلاقيا للشيعة والسنة، وليسا مجرد نزاع عابر. وفي وسع ما يجري في وادي الرافدين وأرض الشام ان يرسم مسارات ١٠٠ سنة مقبلة. وها هي مراكز القوى تحاول ان تخفي وراء عباراتها السياسية الحديثة، حقيقة اننا محتجزون داخل منطق الابادة الذاتية الذي تزخر به حكايات الملاحم والفتن القديمة، كي نتقيأ اسوأ غرائزنا على المنابر، ثم يتحول ذلك الى مواقف سياسية مليئة بالحمق والمآل الاسود. والمصيبة ان الدماء التي سالت حتى الان، ليست في توقع كثيرين سوى مقدمة "للملحمة الكبرى" الاتية لا محالة. وهكذا يجري تخدير كل خيارات الوسطية والاعتدال، وفتح بوابات التاريخ امام منطق اللاعودة الفريد.
ولكن هل فاتت الفرصة حقا وصرنا عاجزين عن تحويل لحظة الذبح العظيم هذه في سوريا والعراق، الى محاكمة اخلاقية وعقلانية لكل ارث العداوات اللاهوتية والسياسية، وهل حقا ان من المستحيل على الطائفتين تقاسم خير هذه الارض دون اراقة الدم؟ وهل حقا ان تعاليم الامامية والمعتزلة والاشاعرة وحتى الحنابلة التيميين، تبيح دعم دكتاتوريات الموت او تنظيمات الموت، انتصارا لاهل "الحق"؟ من المستفيد من "تشويه الايمان" وتعبئة "الجمهور المؤمن" ضد بعضه؟ وكيف سنضمن بقاءنا داخل المستقبل، وانتزاع اعتراف من الكون بأننا طرف مسؤول وشريك ملتزم، حين نعلن بصراحة عجزنا عن تصميم صيغ سلام، وحين يرتفع صوت مجانيننا، ويتظاهر عقلاؤنا بالصمت ويلوذون باليأس؟
ان احتجاز خلافنا السياسي في نزاع اللاهوت الذي يصوغ العلاقات الداخلية بين المسلمين اليوم، سيسهل تحقق لعنة توقعها المصلح المسيحي مارتن لوثر نهاية القرن ١٦ ذروة عصر الكراهية، يوم كان طاعنا في السن وغاضبا على بابا الكنيسة وخائفا من تقدم العثمانيين، فكتب ما يشبه نبوءة يائسة تقول "دعوا المسلمين يفعلون ما يشاؤون حتى ينزل بهم غضب الله في النهاية، ولننصرف للاهتمام بأنفسنا وطاعة ربنا حتى لا ندخل في عداد المحمديين الملعونين".
لعنة لوثر على المسلمين
[post-views]
نشر في: 9 مايو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 3
علي كريم
عزيزي لطالما اعتقدت ان احدالطرق فيمناهضة الطائفيه والقضاء على هو الامتناع عن الخوض فيها وتكرار مفرداتها وعدم الاعتراف بأصولها التاريخية .. ولكنني ورغم متابعاتي العشوائية لما يتداول من احاديث وتجاذبات اجد ان الانفجار الأعظم لابد قادم وان السيف غد غادر غم
الشمري فاروق
الصديقالعزيز سرمد لقد ظهر لوثر في القرن الخامس عشر الميلادي...نحن المسلمين الان في القرن الخامس عشر الهجري فهل سيظهر لنا زميلا للوثرهم...وكمنحن بحاجة اليه!!!!!
ياسين عبد الحافظ
ليست لعنة، انها جوهر الديانة المسيحية، (ربنا لا تدخلنا فى التجربة لكن نجنا من الشرير)