وقف الأب عند الضريح مكتوف اليدين كأنه يمنع جسده من انفجار مضاد.. الأب حاضر عند التابوت لكنه يبتعد قليلاً عن الحاضرين، تقريباً في خلفية الصورة لأن حزنه لا يشبه حزن الباقين، فأراد أن يضع تلك المسافة الضرورية للاختلاف ولكن بلا قصد ولا تصميم مسبق، مثل قصيدة تنتمي إلى واقعيتها بمقدار ما تكون على حدة.
يقف في الخلفية ليتيح لنفسه فرصة استئناف ما يحدث.. هي برهة لا تقاس بالزمن إنما بالمسافة، ليتأمل الفارق بين قناعتين: إن عماراً لم يمت.. لكن عماراً مات!
أنا عمار الشابندر.
.. والأم؟
الأم هي الأخرى التي تنزوي بعيداً خارج المشهد وفي بؤرته.
هي الأم العراقية التي لا تأبه للندب والنعي وما تقوله القوّالات، عادة، في المآتم.. إنها لا تسمع ولا تريد أن تسمع لأن الكلام، كله، لا يبلغ ما يقوله صمتها الدامع، الصاخب، المجلجل، وهي تنظر إلى ما يحدث ولكن لا تراه.. حيلة دفاعية يبتكرها الحزن غير العادي على إبنٍ قتيلٍ.. إنها تنظر ولا ترى.
الابن في تابوته لا يفقه الموت ولا الحياة، لكنه "يحس" بأنه غائب حسب، هكذا يظن الأب وهو يقف مكتوف اليدين ليمنع جسده من انفجار مضاد.
أما إذا كان الموت اغتيالاً فهو الموت/ الموقف.. لأن القاتل يعرف هدفه مسبقاً، يرسم صورة ضحيته عبر منظار بندقيته، أو عبر الفرضة والشعيرة، أو عبر سيارة مفخخة، مجمل حركة الضحية في الشارع العام، على كرسي في مقهى، في مكتبه حيث يعمل، وقبل هذا كله: عقله الذي يتبدى عبر كلمات في تقرير صحفي كتبه فيشم منه القاتل رائحة الخطر لأنه يلهج بشعور مخالف لشعور القاتل.
تمثل دراما القاتل والقتيل: تعارض مطلق غير قابل للتصالح.. منذ ولادة البشرية ثمة طفولة الموت قبل أن يشب عن الطوق ويصبح راشداً قابلاً للقتل.. الموت ضرب من القتل أصلاً:
"أنبكي لموتانا على غير رغبةٍ/ تفوت من الدنيا ولا موهبٍ جزلِ
إذا ما تأملتَ الزمانَ وصرفهُ/ تيقنتَ أن الموتَ ضربٌ من القتلِ (المتنبي).
أنا عمار الشابندر.
في مشهدنا العراقي خفت حساسيتنا إزاء الموت لفرط التكرار وهو ليس الموت جراء حادث دهس أو بسبب خطأ طبي أو سكتة قلبية، لأن تاريخ الموت هو جدل البشرية.. الموت العادي أقل وطأة من الموت اغتيالاً، لأن يد القاتل تسبق يد الله، حتى لو اعترض مؤمن بأن القاتل هو وكيل عزرائيل الذي أرسله الله ليقبض روح القتيل.
لا، لا، لا!
لست مؤهلاً لمحاججة الله، ولا المؤمن به.. لكن الموت، اغتيالاً، شكل من أشكال التدخل ضد سلطة الله حتى بالمعنى الرمزي للربوبية.. أظن أن الأب،غالب الشابندر، يفهمني أكثر من غيره.
أنا عمار الشابندر.
صدام حسين وأجهزته الإجرامية وأبو بكر البغدادي ودولته الداعشية هما القاتل نفسه، وعمار الشابندر ومن معه في مقهى الكرادة، وقبلهم شهداء لا إحصائية لهم ولا توثيق، بل حتى الذاكرة العراقية العراقية معطوبة، وبعدهم سلسلة من الشهداء المعروفين والمجهولين، هم الضحية نفسها، عندما يكون مجرد الوجود البشري للكائن المختلف مصدر خطر على السلطة الظلامية، ولا تنسوا، رجاء "حرامي آل البيت" الذي يرتكب الجريمة من دون أن يتوقعه أحد.. شخصياً أتوقعه، ولأنه "حرامي آل البيت" فلا دليل ثمة!
كثيرون ذهبوا إلى الملكوت مع عمار الشابندر.. أباؤهم وأمهاتهم وإخوتهم وأصدقاؤهم يبكون بصوت عال أو بصمت الأمهات غير القابل للظهور عندما تختنق الحناجر والعيون بنوع من الحزن الصعب، الصعب جداً.
العراق بلد السواد.. لأنه بلد النخيل مقطوع الرؤوس.
صبراً غالب الشابندر، أيها الأب الواقف مكتوف اليدين ليمنع جسده من انفجار مضاد.
أنا عمار الشابندر.
أنا عمار الشابندر
[post-views]
نشر في: 18 مايو, 2015: 09:01 م