ان المحجوزين عند معبر بزيبز على نهر الفرات، العاجزين عن دخول بغداد، والعاجزين عن العودة الى الرمادي، في وسعهم ان يجعلوا المرء يتخيل كيف ان العقل السياسي العراقي نفسه، محتجز في بزيبز لا يكاد يجد سبيلا لعبور النهر ولا العودة الى البر.
ان الضمير العراقي يتجول هناك حائرا في المآلات والمصائر، وقد اعتاد على هذه المواقف، فقد سبق له ان تجمد في خيام الايزيديين في دهوك الشتاء الماضي، وقد تيبس مع دماء سبايكر في القصور الرئاسية بتكريت، وجرى ذبحه مع البونمر مرات ومرات. اما اليوم فان العقل السياسي العراقي نفسه مجرد حائر يتجول في بزيبز ويعجز عن فهم ما يجري.
وفي وسع الفرات نفسه ان يسرد حكايات كثيرة للعابرين. فقد كان شاهدا على مهازل رهيبة، على مر التاريخ، ظلت تتفاقم حين يتصارع على شط الفرات، اقوام قادمة من براري نجد، واخرى منحدرة من جبال زاغروس، تملأ فراغ القوة الذي تولد بسبب الانقسام الدائم للعراقيين وولعهم بالاختلاف.
واسوأ ما يشعر به هذا العراقي المحتجز عند الفرات، هو ان "الخليفة" المزعوم يحق له ان يتشاغل عن كل خسائره الميدانية وينشغل بالضحك علينا بكل طوائفنا. فمن الارجح ان زعيم داعش سيحتفل الشهر المقبل، بذكرى مرور سنة على امتلاكه دبابات ومدافع امريكية لم يدافع عنها مهدي الغراوي "الحاكم العسكري للموصل". و"الخليفة" يعلم انه استطاع ان يهزم النجيفي والمالكي ويتغلب على جيوشنا العديدة، لانه استغل عجزنا عن الظهور بمظهر سياسي مطمئن للجمهور. وبعد سنة من هذا التاريخ، ها نحن نخوض اخطر المعارك دون الحد الادنى للضمانات السياسية التي ينبغي تقديمها لبعضنا. وها هو "الخليفة" يسخر من نسياننا للدروس وسيول الدم.
ها انا استرجع وحسب ما كتبته الشهر الماضي في هذه الزاوية: لقد اختصرنا الامر بأن قلنا للقوى السنية بان كل النقاش السياسي سيتأجل الى ما بعد طرد داعش! لا نقاش لعفو عام، ولا لصلاحيات ادارية، ولا لصيغة الامن بعد داعش، ولا لاجراءات الاجتثاث، ولا ملف التوازن، ولا ولا... فكل هذا يتوقف الى ما بعد الانتصار على داعش. بينما كنا نقول في لحظة مجيء حيدر العبادي، ان الانتصار على داعش مستحيل بدون بناء ضمانات سياسية بين المكونات الكبرى، لاثبات ان اخطاء المالكي لن تتكرر. لماذا انقلبت الصورة الان، ولماذا منحنا "الخليفة" حق ان يضحك مجددا، وحق ان يذبح المزيد من الشرطة في اماكن اخرى من الانبار؟
لقد انتصر الخليفة قبل سنة بسبب انقسام كبار الساسة. ونريد الان ان نهزمه رغم اننا لازلنا منقسمين. فتقريبا ذهب الشيعة لوحدهم في معركة تكريت، لانهم لم يكونوا يثقون بالسنة. والان وبسبب سوء فهم عميق، فاننا نترك الجيش والسنة بمفردهم في الرمادي ناقصي التسليح، وكل الطريقة التي يتحدث بها معظم السنة والشيعة عن بعضهم، لا تناسب امة تبحث عن انسجام سياسي لتهزم فصيلا دمويا.
وحتى بعد التطورات المؤسفة في الرمادي، وحتى مع دخول الحشد الشعبي المعركة، حيث ازداد مصيرنا توحدا بقدر ايماننا بصعوبة اي لون من التعايش مع داعش، الا ان الاصرار على تجاهل السياسة وتأجيل التسوية، سيعقد مهمة الجميع، وسيزيد عدد الضحايا، ويمنعنا من امتلاك نصر مستقر.
كل العراقيين، قلوبهم مع المتطوعين والجيش، لكن العقل السياسي المحتجز مترددا وحائرا، في معبر بزيبز، قد يساهم في تبديد كل التضحيات، ويسمح مجددا، "للخليفة" بان يضحك ويسخر.
المحتجز عند الفرات
[post-views]
نشر في: 18 مايو, 2015: 09:01 م