TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > خسارتنا ليست لغزا

خسارتنا ليست لغزا

نشر في: 20 مايو, 2015: 09:01 م

لا تفتشوا عن حل للالغاز والاحاجي والحزورات، ولا تنفقوا مزيدا من الوقت في اسئلة من قبيل: كيف حصل هذا، ولماذا ننتكس؟ لن تعثروا على اجابات لانكم تصوغون السؤال داخل اطار الكارثة. ولابد من الخروج عن اطارها لملاحظة الوقائع. اننا لا نمر بنكسة ولا خسارة. في الخسارة يوجد رابح. اما في مصيبتنا فكلنا خاسرون وننزف ونهدر الارواح والسنوات من اجل لا شيء.
اننا لا نمر بخسارة، بل نعيش بصيغة مصممة للخسارات فقط. لاننا قررنا البقاء خارج التاريخ. وما نعيشه اليوم هو مجرد طعم التواجد خارج التاريخ.
ان العالم المتقدم يشبه مدينة عملاقة محاطة بالاسوار، وخارج الاسوار تلك وحوش ضارية ولا قانون يحكم ظروفها سوى المخالب والانياب. ونحن قررنا الخروج من المدينة المحمية بالاسوار الى حيث حفلة الدم خارجها. امضينا عقودا طويلة ونحن نوجه الشتائم للعالم المتقدم، ونحتقر قوانينه، ونسخر من طريقته في الحياة، ثم صرنا نشكك حتى بأهمية معارفه وعلومه، فانقذفنا وراء الاسوار، وها نحن نتذوق طعم الطرد الى حفلة الدم والانياب والسكاكين.
لا يمكن لشعب ان يعزل نفسه عن الدنيا، ثم يأمل ان يبقى في وضع طبيعي مثل اوضاع هامبورغ او سيئول او دبي. ليس الامر متعلقا بمؤامرة كونية، ولا بشجاعة جنودنا، ولا انسجامنا الداخلي. لقد خرجنا من ذوق وقواعد العالم المتقدم وصرنا نكره الموسيقى والسينما، ولا نتعامل مع الشركات الاجنبية، ونقيد حركة النساء، ونشك بكل ما هو حديث، ونبالغ في كل هذه الموضوعات وننشغل بها اكثر من اللازم. لم نعد شركاء للدنيا. كل الاجانب القادمين الينا يشعرون بالوحشة والخوف والغربة. تقمصنا طريقة حياة لا علاقة لها بالعالم. ثم انتكسنا تربويا وتنمويا وحتى صحيا، فغرقت مدننا في القذارة والازبال، وصرنا نسأل انفسنا: كيف يمكن الحصول على مدينة نظيفة؟ اما الان فعلينا ان نسال: بعد ان يعيش الناس سنوات طويلة في مدن تملؤها الاوساخ، وتحرم فيها الموسيقى، ويحاصر الشباب، وتقيد المرأة، ويخشى الاجنبي زيارتها او العمل فيها... هل يصبح صعبا اشعال حرب اهلية؟ وهل تبقى لدينا مهابة امام جار او حليف او دولة صغرى او عظمى، كهيبة تمنعهم من التلاعب بنا؟
ليست خسارة ولا مؤامرة، بل خروج متسارع من التاريخ، هذا طعمه. والدليل ان اصدقاءنا انفسهم حائرون في كيفية مساعدتنا. واعداؤنا حائرون ايضا في حجم "التسهيلات" التي نمنحها لهم بسبب سياساتنا الخاطئة.
انه طعم الجانب الاخر من الدنيا، الموحش، المنشغل بالخلاف حول الله والجدل حول السماء، ومحاولة تحديد الفرقة الناجية، والتلاعن والتكفير، وجعل الناس ينشغلون بالقشور وينسون الجوهر الاخلاقي للاديان وروح العدالة واللياقة والذوق.
وكيف يمكن لمدن غارقة في الازبال ان تمتلك جيشا قويا يدافع عنها؟ وكيف نفشل في تأسيس سياسة بلدية صحيحة تجعل مدننا بمنظر لائق، ثم نطلب من الجيش ان يكون متقنا ومنضبطا وشجاعا ومندفعا، ولا يقهر؟ كيف يمتلك البلد الفاشل، جيشا ناجحا؟ وكيف نتمسك بالعزلة عن الدنيا وتحريم طريقة الحياة الحديثة، ونطالب الدنيا التي نعتبرها كافرة، بان تساعدنا في الامن والاقتصاد والمعرفة والصحة؟
ليس ما حصل مفاجأة، ولا لغزا. انه طعم الخروج من التاريخ. واذ لا نزال نأمل ان ندخل لحظة تصحيح ومراجعة، ونتمنى ان هناك فرصة اضافية لتجاوز اخطاء صدام حسين ومن قبله، ومن بعده، فان ما يستحق ان ننتبه اليه هو ان كل الويلات التي حصلت لا تمثل النكهة الكاملة لمعنى الخروج من التاريخ. بل امامنا ان نتدحرج اكثر فاكثر، وان نهبط في قاع ابعد لنكتشف ان التدهور يمكن ان يصبح بلا حدود حين تنشغل الامم باسئلة خاطئة، وتتمسك بالعزلة عن قواعد الدنيا وتغير الزمان وتقدمه.
انه مجرد تذوق جماعي لطعم الخروج من التاريخ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. أبو ياسر

    حبيبي أستاذ سرمد المشكلة اليوم ليست الانتكاسات التي تصيب بلدنا والمنطقة بصورة عامه كما تعلم بل هي في كيفية تحديد خياراتنا والقابليه على أخذ زمام المبادرة واستغلال التقاطعات الدولية في المنطقه وهذا لن يحصل إلا إذا ما راجعنا بنية العقل التي نفكر بها.

  2. مزهر الطرفة

    نعم اخي استاذ سرمد صدقت وشخصت مصيبتنا فعلا نحن خارج التاريخ ، والمصيبة اننا او قل هم مصرون تماما على المضي في نفس الطريق ،دائما اقرأ واراك صادقا في ماتكتب ولكن من يقرأ ومن يكتب ؟ جهل وأمية تسلطت بل تكالبت على هذا البلد العظيم والساتر الله من النهاية في حا

  3. ابو سجاد

    ياخي ان الذين اخرجونا من التاريخ هم معروفون منهم من ملتحي ومنهم المعمم ومنهم من لبس العقال انتم ةتعرفونهم جيدا هؤلاء هم الذين باعوا البلاد منهم من باعها لايران وتركيا والسعودية لماذا لم تشيروا لهم مباشرتا وتعلنوا الحرب عليهم ماذا تنتضرون اكثر من هذا الانه

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram