منذ أن رأيت عمله الضخم والكبير (حديقة الميناء) الذي أنجزه سنة 1974 وهو يتمدد على مساحة واسعة من حديقة متحف كرولر مولر وسط هولندا وأنا أتساءل عن ماهية ومغزى أعماله والفلسفة التي تقف وراءها ، هكذا تصيبني أعمال الفنان الفرنسي جان دوبوفيه ( 1901- 1985 ) بالصدمة والحيرة معاً ، هو الذي يصنع شخصياته بعجائن يخلطها باللون لتظهر بهذه الخشونة وهذا الانطباع بالفزع والألم والخوف لكنها أيضاً مغلفة بجمال أخاذ لايقاوم ، هي تشبه الى حد بعيد مرآة ننظر من خلالها الى تماثيل فنان عظيم آخر هو جياكوميتي الذي يشترك معه بهذه الخشونة وعدم الاهتمام باللمسات النهائية للأعمال.
في كل الأحوال علينا دائماً أن نصبر قليلاً ونحن ننظر الى أعمال دوبوفيه ونتجلد إزاء انطباعنا الأول ، لأن أعماله تبدو لأول وهلة مثل رغيف خبز غير ناضج ، لكننا حين نتذوقه نرى كم هو لذيذ وممتع وطيب.
بيت أبيض ينتصب وسط عشب الحديقة ، أراه غير منتظم الأضلاع بسقف متموج لا يسمح للسير فوقه بسهولة ، هذا ما فكرت به أول الأمر ، وبعد أن صعدت الى السطح ومرَّرت خطواتي بين وحداته وتعرجاته الغريبة أحسست بالفعل أني أقف وأتمشى وسط عمل فني يكاد يبتلعني وأصبح جزءا منه ، أنصهر كما انصهر مجموعة من الشباب الذين أراهم يتقافزون هناك على السطح . كيف لنا أن نعرف ما أراده هذا الفنان من صناعة بناء بهذا الشكل دون أن نختبره بأنفسنا نحن عابري السبيل في هذا المتحف ؟ فلا الصور كافية ولا ماتقوله لنا الكتب يكفي لتطمين حاسة البحث عن هذا النوع من الفنون . لقد صنع دوبوفيه هذا البناء بنفس الطريقة والمواد والتقنية التي يصنع بها أعماله النحتية المشهورة بلونها الأبيض وخطوطها السود التي تغلف الزوايا والحافات ، هو ينظر الى البيت إذن كما ينظر الى منحوتة وفي نفس الوقت يتعامل مع المنحوتة كما يتعامل مع اللوحة ، تتداخل الأشكال عنده وتبقى وحدة التعبير هي القائمة والمؤثرة ، يخلط مجموعة من المواد لينتج عملاً فنياً وكأنه يستعيد هنا سنواته الطوال التي قضاها مع والده صانع النبيذ في ريف فرنسا وهو يحوّل أنواعا كثيرة من العنب الى أصناف مختلفة من النبيذ المعتق .
ترك دوبوفيه عائلته الثرية واتجه الى باريس وهو بعمر السابعة عشرة وبدأ بدراسة الرسم في أكاديمية جولاين ، لكنه لم يبق فيها طويلاً حيث توقف عن الدراسة وعاد الى مزرعة العائلة ليمضي أكثر من عشرين سنة أخرى وسط كروم العنب قبل أن يقرر في النهاية أن يصبح فناناً.
أعظم تحوّل في حياة هذا الفنان حين أطلع على كتاب فيه رسوم للمجانين والمصابين بالأمراض العقلية واكتشافه لتلك الطاقة والغرابة الكبيرة التي تحملها ، كذلك كان تأثير رسوم الأطفال كبيراً على أعماله هو الذي رأي فيها تلك البراءة والعفوية وعدم الانتباه للتفاصيل ، وقد نجح نجاحاً لافتاً وأصيلاً وهو يمزج هذين العالمين ليخرج بخلطة نادرة تمثل شخصيته الفنية وتتوج بحثه الدائم عن طابعه الخاص وطريقه الذي لا يشبه طرق الآخرين .
من الاشياء التي تدهشني في لوحات دوبوفيه إضافة الى تقنيتها طبعاً هي اختياره لعناوين غاية في الغرابة والغموض ، مثل لوحته الشهيرة ( لحية العودة غير المؤكدة) والتي لا تظهر فيها أية لحية ولا عودة وهي تذكرني بمسرحية يوجين يونسكو (المغنية الصلعاء) حيث لا مغنية ولا صلعاء ، وهذا هو قمة العبث واللامعقول.
انطباعي الدائم عن أعمال دوبوفيه هو أنه وضع رسوم المجانين في قبعته وأخرجها لنا بعد فترة وهي مليئة بالحكمة والجمال .
لحية العودة غير المؤكدة
[post-views]
نشر في: 22 مايو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...