يقول سياسي عراقي كبير: إنَّ داعش عقيدة، وهي فكر سلفيٌّ، ونتاج عقلٍ متطرفٍ. ونقول: نعم، هي عقيدة بغضاء، وفكر أسود، ونتاج كراهية. لكن، وقبل ذلك كانت قد وجدت ضالتها في نفوس البعض منا، مثلما وجد التطرف والتشدد والكراهية ذاته ضالته في نفوس آخرين. ولو لم يكن التشدد دينا والتطرف مذهبا، لو لم تكن البغضاء عقيدة راسخة لما تمكنت من تحقيق ما حققته على الأرض. نحن أسارى عقائد تجتذب من يتناغم مع طروحاتها، وتتشرب بدم قتلاها أياً كانوا. وينضوي تحت لوائها من لم يجدوا سوى ضياعهم بيننا. وهكذا، فهي تنفتح وتنطبق على كثيرين ممن انسدت المساحات أمام أعينهم، أولئك الذين لم يجدوا الفسحة المناسبة متاحة لخروجهم .
منذ سنوات وسنوات ونحن نرقب الظواهر الاجتماعية- الدينية وهي تنحرف عن مسمياتها. يقول صديق مغترب في أوروبا منذ أكثر من 35 سنة بأنه حين قُبِلَ لاجئاً في الدنمرك، كان موظفو اللجوء يثقون بكل كلمة يقولها، دونما حاجة لوثيقة أو لدموع على خديه. وكان التعاطف معه بدون حدود، وحين سألته عن سرِّ ذلك؟ قال : لأن الصدق غالب، أما الكذب فهو استثناء هناك، والوفاء راسخ، والحق تشريع لم يكتب إلا في الضمائر، وكذلك الحال مع اللطف والتسامح والعفو ومساعدة الغير والإيثار والمشاركة البعيدة عن المصالح الشخصية في أغلب مفاصل الحياة، لديهم شعور مشترك بأهمية الحب والطمأنينة، لم يسمَّ في كتاب، لكنه قاعدة عامة، والناس تعيش في رحبة الصدق.
ولأني ناهزت الستين من العمر فقد عنَّ لي أن أتذكر شيئاً مما غادرته الحياة اليوم، ولهذا سأعود بالزمن إلى اكثر من خمسين سنة مضت. وأقول بأني كنت أطوف بيوت الجيران، حاملا على رأسي زنابيل صغيرة فيها مما ينتجه بستاننا الواسع من رطب وتمر وفاكهة وخضار، مما يزيد على حاجة بيتنا الصغير، يهديها أبي لهؤلاء. ثم أذكر انه قال لي ذات يوم قائظ، ونحن ندخل سور البستان: اتبعني، ولا تتلفت، ولا ترفع صوتك، فتعجبت من طلبه الغريب هذا، حيث كنت أسير خلفه. ولما بلغنا المنزل، اطلعني على ما لا يمكن تصوره طبيعيا اليوم، فقد كان شاهد أحدَهم( حرامي تمر) صاعداً إحدى نخلاته، يسرق منها ما بدا له أنه متاحاً. ولما سألته: لماذا لم تنهره؟ لماذا لم تأخذ بحقك منه؟ اجابني: (خطيّة) مسكين، خشيت أن أشعرهُ بي، فيرتبك ويسقط من النخلة، لو لم يكن جائعا لما تجرَّأ، أعرفه، كان عائلاً، غير قادر على إطعام أبنائه، فوددت أن يأخذ بغيته، ويكون لنا في ذلك صدقة !!!
لم يكن أبي استثناءً من القاعدة البسيطة هذه، وليس في الأمر عبقرية كبيرة، إنما كان يشترك مع الغالبية في ذلك، فقد كان الخير بغيةً ومقصداً للجميع آنذاك. كانت النفسُ العراقية أقلَّ كراهية وبغضاءً، كان قلب العراقي ينفطر لقلب مثيله في الخلق. كان مشهد الحياة واسعا للفرح والهناءة ،أما الموت فقد كان مفزعاً ما فيه الكفاية، يومذاك لم يكن الدين يافطة سوداء كريهة ترفع أما الكاميرات، آنذاك، لم يكن في البيت اكثر من بندقية للصيد صدئة. كان الفرح حصير خوص ورغيف خبز حار وطاسة لبن يعقبه استكان شاي بالنعناع. كانت الطمأنينة دشداشة حرير بيضاء وغترة زبيرية. كان الأمل بالغد معقوداً بما يجب أن تشترك فيه مع جيرانك وأهل قريتك. كان الدين مصحفاً ملفوفاً بقماشة خضراء، نخشاه ونتصفحه للتبرك. ولا نُقسم به. كانت الصلاة في مسجد قريتنا الوحيد تقرباً ومرضاة لله، لم يدخل مسجدنا أحدٌ ببندقية. وما سُجّيَ مقتول على دكة مغتسله. كان أهلنا يموتون حتف انوفهم، يهدهم التعب فيموتون . يمزّق الوفاءُ اجسادهم فيموتون. يصعدون النخل وينزلون ويموتون، يحرثون بساتينهم ويكرون انهارهم ويموتون. كانت الحياة عقيدة ضامنة للجميع.
يمزِّقُ الوفاءُ أجسادَهم فيموتون
[post-views]
نشر في: 23 مايو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...