الكاتب الروائي والقاص احمد خلف يسعى منذ ستينات القرن الماضي ،ان يكتب شيئا مميزا ،له خصوصيته ، لم يتوقف في مسعاه هذا حتى في اصعب الظروف ،وكانت الرواية هي الجنس الأدبي الأهم بالنسبة له ،ليكشف من خلالها موهبته في الكتابة ،وإن تعددت وتنوعت في أجناس ومياد
الكاتب الروائي والقاص احمد خلف يسعى منذ ستينات القرن الماضي ،ان يكتب شيئا مميزا ،له خصوصيته ، لم يتوقف في مسعاه هذا حتى في اصعب الظروف ،وكانت الرواية هي الجنس الأدبي الأهم بالنسبة له ،ليكشف من خلالها موهبته في الكتابة ،وإن تعددت وتنوعت في أجناس وميادين أخرى،اتجه احمد الى القراءة والكتابة منذ فترة مبكرة في حياته ،وظل طيلة تلك السنوات وهو يمارس لغة التجريب،منطلقا من مفهومه للإبداع ، كإضافة للتراث الثقافي الإنساني ككل. وظلت تشغله إشكالية الشكل والمضمون ، وعنصر حرية الإبداع ، للوصول الى اكبر قدر ممكن من حرية الكتابة ،فاتجه الى قراءة التاريخ بتوسع كحقل معرفي خالص،والأدب الروائي العالمي الكلاسيكي ،ونهل من فلسفات عدّة ،وظل يبحث في الجذور،بما يؤمن تشكيل صوته الخاص ،مع استيعاب الأساليب والتقنيات الحديثة في الرواية،والقصة القصيرة وهو أهم مايميز تجربته الإبداعية.
قلنا ان احمد خلف انشغل بالقراءة ، وبموازاتها الصداقات ، واحتلت حيزا مهما في عقله وتفكيره، وراح مندمجا بهموم متواصلة (الهزائم والإنكسارات ،تراجع الأيديولوجيا،الحروب، فشل الحركات الثورية في العالم،تبدد الأحلام ، استباحة الأوطان،وغيرها ) ،إلا انه ظل في الحقل الذي يدير فيه أسئلته واضحا ومحددا.يبحث بعمق عن معنى الحرية ،موضوعته الاساس ، يبحث في قضية الإنسان العراقي ، وهو يواجه قدره في البحث عن الخلاص من القمع والاستبداد .وميزة احمد تتلخص في مواجهة هذا الواقع لا بالهروب منه ، أو بالخضوع لشروطه بقدر ماتكون بالتحدي بجرأة وشجاعة ،منحازا للإنسان في جميع كتاباته .فلم ينقطع احمد خلف عن مواصلة الصياغات لكتابة جديدة ، فقدم لنا عملا فنيا جديدا هو روايته الأخيرة (تسارع الخطى ) التي صدرت عن دار المدى عام 2014 .
تصدرت الرواية مقطعا شعريا للشاعر الفرنسي سان جون بيرس الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1960،وهوتقليد يحمل أسراره الخاصة به ، ويهبها لنا بحكاية سيكون سردها لطفا يفرض الاستمتاع به ،وهي إشارة ذكية لشحذ عقل القارئ وشد انتباهه ،بزجّه بالحدث منذ اللحظة الأولى في المباشرة بالقراءة .
تبدأ الرواية بحوار بين رجل مختطف مهنته التمثيل والكتابة المسرحية ،وامراة مجهولة ،لايفصح الكاتب عن اسميهما إلاّ بعد حين إذ نتعرف على عبد الله ،وفاطمة،التي تدعو المختطف عبد الله أن يأخذ حذره ، لإنها ستتكفل لوحدها في إطلاق سراحه من جحر مظلم نحو الدنيا الواسعة ، وراحت المرأة بصوتها الدافئ الحنون ، الناعم والرقيق ايضا ، وبحضورها الغامض بتهيئته لمئات الإحتمالات .
يضعنا احمد خلف منذ البداية ، امام حالة معقدة ووضع مربك في حوار خافت بين الفتاة والمختطف،اثناء الليل حين يزحف القتلة واللصوص نحو النوم ، بأسئلة متلاحقة منها لايجد لها جوابا،كان المختطف يسمع صوتا في داخله يناديه ،وأصواتا اخرى تنفذ اليه،وهي تحمل خلفها قصصا ،تحمل تراجيديا الدهاليز المظلمة فتملكه شعور متأجج يترقب ساعة الخلاص من الأسر ، ومخاوف وشكوك في حقيقة نوايا الفتاة ،لم يشأ المختطف أن يطوي الوقت في فك أسرار تساؤلاته حتى جاءه الصوت مناديا : لاتلتفت الى الوراء عليك ان تصغي الى تسارع الخطى.
مثلما ينطلق السيد عبد الله كالنيزك ،راح الروائي يعالج المكبوتات والاحلام وتحقيق الحرية ،في الكتابة والسفر والمصابيح المشعة ،والنساء الجميلات ، والبيوت النظيفة المليئة بالمسرات،لكن عبد الله يجري منطلقا لايلوي على شيء وهو يلعن الساعة التي غادر فيها المنزل ليلتقي (رياض) زميل ابنة اخته (هند) في الكلية ،الموعودة بالزواج منه بعد أن افقدها عذريتها.
بأسلوب التداعي في السرد،يكشف لنا الروائي المأزق الحقيقي الذي تطرحه الرواية بحدة ووضوح فائقين ،صور متلاحقة لكوابيس تطارد عبد الله وتترصده في المنافذ والطرق السالكة ، وحده الان وهو في هذا الكابوس الخانق داخل حدود المطاردة ،يتساءل عن مقدرة الفن من انقاذه من ورطة ،الموعد الذي تحول الى فخ لرصده واختطافه ، صديقه المترجم الذي اختار الهجرة ،لم يكف عبد الله من القاء اللوم على نفسه بزواجات فاشلة ، وزوجة تستخف بما يكتب ،دور هاملت الذي تمنى ان يؤديه ، لإنه كما يعتقد تجسيد لجوهر الإنسان وهويته.
لاينكسر زمن السرد في الرواية بمقاطع وفواصل ومحاور ، إذ لجأ احمد خلف الى الامساك بقوة بخيط السرد ،ليدع القارئ لايلتقط انفاسه بأحداث متداخلة متتالية ،وهو الطابع العام لبنية رواية (تسارع الخطى) .انها لهاث لايتوقف في البحث عن الفاعل ، والمنقذ (فاطمة) ،عن الشابين ،عن الرجل الكبير ، والرجل الانيق ، الصديقين ابو العز والبصري ، هاشم دقله .....إذ تتقدم الرواية لابتعبيرها ، إنما بلعبها الفني ، فيحاول احمد ان يقدم شكلا ثقافيا نوعيا للسرد ، ويبدو تكنيك الرواية هما بما تود ان تقوله ، كأنها بحث عن إنجاز فني يبني ماهدمه الخراب . إيقاع متسارع يفسر معنى عنوان الرواية الذي اختير بعناية ، وظل يتكررفي اغلب صفحاتها.
عبد الله يحلم منذ ريعان شبابه بدورهاملت الذي تلبس شخصيته ،أكلته الوساوس من تلك الاحلام المستحيلة ، التي استمرت تدغدغ مشاعره تارة ، واخرى تعذبه ،ان قدرة شخصية هاملت تتمثل في استيعاب التساؤلات والتفسيرات المتشابهة ضمن سياقات فكرية متناقضة ومختلفة ، ومتلما وضع شكسبير شخصية هاملت في ظروف مثيرة للغاية ،استطاع احمد خلف دونما قسر وافتعال ان يحمّل بطله هذه الدلالات والملامح، تشف عما وراءها من مغزى ، مصورا لنا حالة الإحباط التي تنتهك ابطاله تحت ضغط قوى القهر والدمار .
احمد خلف يعتمد بنى نصية صغرى ترتبط بالبناء الاساس وتقيم معه علاقات اينما وجدت ، تلك البنية الاساسية في النص ، لها شبه استقلال ،وان كان تعلقها به خاصا ومتميزا ،وهل ثمة أبلغ تعبير عن نهاية ام عباس المأساوية لتكون عنوانا لمسرحية (الصرّة) .إذ يحاول عبد الله تهيئة مناخ ملائم لعمل مسرحي عراقي ،يحكي قصة ام عباس التي اودعها احد الارهابيين (صرّة) تحيلها الى اشلاء متناثرة في سوق البياع وحكايات اخرى عن محنة هند وأمها التي فقدت زوجها بحروب مجنونة، ودفنت عمرها في تربية الاولاد . فتبلغ الرواية مستوى تعبيريا يؤهلها لأداء اكثر من معنى ،وحمل أكثر من دلالة .
في ( تسارع الخطى ) ، يقف احمد خلف واعيا بذاته ،وعيا يدعو للإعجاب ، واعيا بأدواته إذ يكشف حقيقة الشر بمتعة لاتنضب في متابعة الخيوط اللامتناهية ، وهي خيوط العلاقات المتشابكة في الرواية ، وهي تشابكات في عمق الحياة نفسها،لكنها منتظمة ومحددة ، ومصنوعة بشكل درامي في اطار حدث معلوم.
فالروائي يقدم اشباحا بوصفها حقائق ، منحها الفعل ليثري ثيمته الروائية ، بتكنيك لمعالجة المادة وموضوعها ، من أجل ان تثار في داخلها حيوية التوافق مع نوعها الخاص في السرد.
وكما هي النهايات المفتوحة ، تنتهي حركة الشخصيات المحورية في الرواية ، نهاية تعمق من معنى العجز عن تحقيق فعل التغيير، ويلجأ الروائي وسط جو الدهشة والحيرة التي وجدت الشخصية المحورية نفسها فيها الى ان يمنح عبدالله القدرة على الرفض ،بموقف شجاع من محاصرة (الرجل الانيق) ، الذي طلب منه ان يكتب سيرة مزيفة عن رجل موهوم اشبه بتاريخ الملوك والسلاطين الغابرين .
إن معنى إيجابيا للتسارع يتمثل بالإحساس الجديد لعبد الله بإستعادة توازن شخصيته ، عبرإدانة عمليات التزوير والتزييف التي لحقت بالتاريخ في كل العصور، للتهوين من فداحة الألم والخوف من ثقل الواقع وغرابته.
(تسارع الخطى) كشف لواقع الدمار ، لاتكتفي الرواية بعرضه ، إنماتحيله الى اشارات معرفية ، على مستوى الذاتي بما يعنيه من وعي ومعرفة وإحساس ، وعلاقة وحلم ورغبات،انها مجاهدة للارتقاء بهوية المثقف.