TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في صمت خوان رولفو

في صمت خوان رولفو

نشر في: 26 مايو, 2015: 09:01 م

2-3

عندما سأل الصحفيون" الروائي المكسيكي خوان رولفو، أثناء زيارته لإسبانيا في العام 1983، لتسلم جائزة "أمير استورياس"، لماذا لم يكتب اي عمل لاحق؟ أجاب صاحب "بيدرو بارامو"، بأنه يحتاج الوقت لذلك، وهو لا يملك هذا الوقت، لأن عمله الوظيفي الذي عليه القيام به في "المعهد الوطني للسكان الأصليين" يأخذ من وقته الكثير، أكثر من عشر ساعات يومياً. في مناسبات أخرى كان خوان رولفو يرجع ذلك إلى "الحاجة الاقتصادية"، حيث، في المكسيك (كما هي الحال في بلدان شبيهة بها، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية)، "من المستحيل أن يستطيع المرء العيش من الكتابة فقط". ولأنه كان يعرف بأن أعذاره تلك لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، كان يغامر أحياناً بالبوح ببعض الأسرار الصغيرة، ببثها هنا وهناك. يقول مثلاً: "الكتابة تسبب لي الرعب الدائم. مجرد تخيل الورق الأبيض هو قضية مرعبة....". أو كان يحاول أن ينفي بأنه لا يكتب: "أنا مشغول بالعمل على قصص قصيرة أخرى إضافية، لا رواية، إنما قصص انتهيت من كتابتها".
في الحقيقة كان خوان رولفو يشتغل منذ سنوات الستينات على رواية حملت عنوان لاكودييرا "السلسلة الجبلية". ففي نيسان عام 1963 نشرت الصحيفة المكسيكية المعروفة "أكسيلسيور" مقابلة أجرتها معه تحت عنوان "السلسة الجبلية كتاب جديد لخوان رولفو". لكن للغرابة باستثناء تلك المقابلة، لم يُعرف بعدها أي شيء عن تلك الرواية/المشروع، باستثناء عنوانها. وبهذا الخصوص يروي الكاتب الإكوادوري "بينيامين كاريون" في مقال له نشره في صحيفة البايس الإسبانية بمناسبة صدور الكتابين الجديدين، بأنه كان في المكسيك في العام 1977، وكان في تلك الأيام قد أصيب بجروح في ساقيه، الأمر الذي جعله يتنقل بالكرسي المتحرك. وكان غالباً ما يزوره خوان رولفو، ويقوده للمتنزه العام، حيث يجلسان بعض الوقت، ويصمتان. كان ذلك هو طقسهما المعتاد. وذات مرة، قطع خوان ررولفو فجأة صمته، ليعترف له، بأنه انتهى قبل مدة طويلة من كتابة "السلسلة الجبلية"، لكنه ممتعض جداً منها، ولا يعتقد بأنه سيقبل على نشرها، لأن "فيها الكثير من الدم". الدفاتر التي تركها خوان رولفو بعد وفاته تؤيد ما فكر به في حينه، إذ تتحدث الرواية، كما كتب عنها في الدفاتر، عن تمرد تلاميذ المسيح ( التمرد وقع في المكسيك بين 1925-1928)، خوان رولفو بالذات كان من أنصار هذه الطائفة وأبوه كان أحد جماعة "تلاميذ المسيح" الذين وقفوا ضد سياسة الديكتاتور المكسيكي "بلوتاركو ألياس كاييس" عندما صادر ممتلكات الكنيسة وحرّم على القساوسة ممارسة السياسة. والد خوان رولفو مات في هذا النزاع (إحدى الروايات الكبيرة والخالدة في تاريخ الأدب العالمي هي رواية الكاتب الانكليزي غراهام غرين "القوة والمجد" الصادرة عام 1940 تدور في المكسيك وموضوعها الرئيس هو هذا الصراع، ولا أظن أنها مترجمة إلى اللغة العربية!).
هناك أيضاً قصة قصيرة كتبها خوان رولفو تؤكد فكرة "الدموية" التي تحدث عنها والتي حملت عنوان: " الليلة التي تركوه فيها وحيداً". فبطل القصة شاب متحمس يتوجه للجبال بصحبة اثنين من أعمامه. لكن العمّين يُباغتان من قبل الاتحاديين (الجيش الحكومي الرسمي) ويُشنقان، باستثناء الشاب، الذي ينقذ نفسه، لأنه ظل نائماً. من الجائز جداً أن يكون الشاب، ببساطة هو خوان رولفو ذاته، والرُهاب الذي تعرض له والذي تركت ظلاله الحرب الأهلية المكسيكية العبثية، التي قاتل فيها الأخ أخاه، عليه، ربما يوضح مقاومة خوان رولفو لتكملة كتابة رواية، كانت تحتم عليه تضمين كل تلك المسارات التراجيدية للمكسيك "الثائرة"، والتي حوت على "الدم الكثير"، الذي ذكره في حضرة الكاتب الإكوادوري، زميله.
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناديل: يكتب كي لا يموت العالَم

 لطفية الدليمي في حياة كلّ كاتب صامت، لا يجيدُ أفانين الضجيج الصاخب، ثمّة تلك اللحظة المتفجّرة والمصطخبة بالأفكار التي يسعى لتدوينها. الكتابة مقاومة للعدم، وهي نوع من العصيان الهادئ على قسوة العالم، وعلى...
لطفية الدليمي

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram