احتفلت الاوساط الادبية ووسائل الاعلام الروسية منذ أيام بالذكرى الخامسة والسبعين لمولد الشاعر الروسي يوسف برودسكي (1940 – 1996) الحائز على جائزة نوبل ،كما عرض في التلفزيون فيلم وثائقي عنه بعنوان "برودسكي ليس شاعرا". وقد عرف برودسكي بأعماله النثـ
احتفلت الاوساط الادبية ووسائل الاعلام الروسية منذ أيام بالذكرى الخامسة والسبعين لمولد الشاعر الروسي يوسف برودسكي (1940 – 1996) الحائز على جائزة نوبل ،كما عرض في التلفزيون فيلم وثائقي عنه بعنوان "برودسكي ليس شاعرا". وقد عرف برودسكي بأعماله النثـرية أكثـر من الاعمال الشعرية ومنها مقالاته "أقل من الواحد" و"غرفة ونصف" و"السجود للظل".
وأراد في مقالته "رحلة الى اسطنبول" التي كتبت بأسلوب ادب الرحلات على غرار "رحلة الى ارضروم" لبوشكين إظهار موقفه من مشكلة تباين الحضارات. وطبعا لا يجوز التغاضي عن امر هام هو ان برودسكي حصل على جائزة نوبل ربما لمجرد معارضته للنظام السوفيتي وهجرته للاقامة في الولايات المتحدة. فمعروف ان جائزة نوبل منحت الى الادباء الروس ، اما في ظروف المواجهة في الثلاثينات او في فترة "الدفء" الخروشوفية في داخل روسيا او في ظروف الحرب الباردة في الثمانينات. وللأسف ان هذه الجائزة فقدت قيمتها حين لم تمنح الى ادباء عالميين كثيرين مثل ليف تولستوي الذي لم تعط له في حينه الجائزة لاسباب سياسية أيضا. بينما تخلى بعض الكتّاب عنها ومنهم برنارد شو وجان بول سارتر وكارل تشابك وغيرهم.
. وقد توفي برودسكي في نيويورك ودفن هناك ومن ثم نقل رفاته لاحقا الى البندقية ودفن في مقبرة سان - ميكيله بناء على رغبة زوجته الايطالية .
واذا ما راجعنا اعمال برودسكي الشعرية فلا يمكن مقارنتها من حيث القيمة الفنية بأعمال الشعراء الروس الكبار في القرن العشرين مثل بلوك و بونين وماياكوفسكي ويسينين. واذكر انني تلقيت بعد منح برودسكي جائزة نوبل طلبا من احدى المجلات لترجمة ست قصائد له. فذهبت الى المكتبة واشتريت نسخة من احد دواوينه لكنني لم استطع ترجمة أي شيء ، لأنني صدمت لخلو هذه القصائد من أهم عناصر الشعر مثل موسيقية الألفاظ وجمال الصور الشعرية. واعتقدت يومئذ بأنني لم انضج بعد لتذوق الشعر الروسي ، لكنني عندما قرأت ما كتبه الكاتب الكسندر سولجينتسين الحائز على جائزة نوبل ايضا عن فقر ابداع برودسكي اللغوي كشاعر واجادته في كتابة المقالات، تولد لدي انطباع آخر عنه. ان برودسكي ما زال يجد في روسيا من يكرم ذكراه ويؤلف الكتب عنه ويقيم التماثيل له في موسكو وبطرسبورغ، مما لا يحظى به غيره من رجال الثقافة الروس البارزين . واعتقد ان السبب هو حياته في المنفى في الخارج وذيوع صيته هناك بفضل وسائل الاعلام الغربية.
ويتخذ النقاد في روسيا مواقف متباينة من برودسكي فيراه اللبراليون شاعرا مجددا وكوسموبوليتنيا ( شخصية بلا وطن) بحكم يهوديته ، شأنه في ذلك شأن باسترناك ومارشاك اليهوديين أيضا . وهو بعيد عن روسيا وتاريخها بعد ان عانى الامرين من السلطات السوفيتية التي ارغمته على الهجرة الى الخارج وبقي هناك حتى بعد ان تغيرت الاوضاع في روسيا. ولهذا ابعده النقاد عن الثقافة الروسية وفصلوه عن الروح الروسية . بينما يراه القوميون شاعرا روسيا واصل تقاليد الشعراء الاوائل ديرجافين وبوشكين وليرمنتوف. ونشر الناقد فلاديمير بوندارينكو مؤخرا كتابا بعنوان " يوسف برودسكي .. شاعر روسي" في سلسلة كتب " حياة مشاهير الشخصيات" ذكر فيه تعلق الشاعر بمدينته لينينغراد حيث قال " سآتي الى جزيرة فاسيلفسكي لكي أموت" (هذه الجزيرة هي أحدى مناطق المدينة ). وفي الواقع ان الكاتب حاول اثبات تعلق برودسكي بمنابته الروسية في كافة اشعاره حتى في القصائد التي نظمها في المهجر والمكرسة الى حبيبته الايطالية ماري. ويتجلى ذلك في استخدامه التعابير المجازية الروسية الاصيلة وفي التلاعب بالمفردات. ويتضمن الكتاب رسالة برودسكي الموجهة الى الزعيم السوفيتي بريجنيف قبيل مغادرته الاتحاد السوفيتي :"أنا انتمي الى الثقافة الروسية واعتبر نفسي جزءا منها . وبالرغم من فقداني الجنسية السوفيتية فإنني ابقى كاتبا روسيا . ولدي الثقة بانني سأعود ، فالكتاب يعودون دائما – ان لم يكن بصورة شخصية فعلى الورق، واذا لا يحتاج شعبي الى جسدي فلربما تنفعه روحي". ونظم قصيدته الشهيرة "الشعب" التي وصفتها الشاعرة آنا اخماتوفا بأنها "انشودة الشعب". كما أبدع قصيدته حول المسيح والعذراء وجاء فيها :
قالت الأم للمسيح
هل انت ابني أم ربي؟ انت المسمر على الصليب
فكيف انصرف الى بيتي ؟
وكيف اخطو فوق العتبة
من دون أن اعرف:
هل انت أبني أم ربي؟
أي هل انت ميت أم حي ؟
لا فرق يا أماه. الابن أم الرب . أنا لك.
وقد تم انشاد هذه المقاطع الشعرية في جنازته في الكنيسة قبل مواراته التراب. وكان قد أوصى من قبل ان لا تتم طقوس جنازته في كنيس يهودي. وبهذا سلك طريق الشاعرين اوسيب مندلشتام وبوريس باسترناك اللذين اختارا ايضا مصيرهما في احضان الثقافة الروسية.
لقد كانت حياة يوسف برودسكي صعبة منذ طفولته حيث لم يكمل تعليمه المدرسي واضطر للعمل في مصنع "ارسينال" في لينينغراد(بطرسبورغ حاليا) وتنقل في اماكن عمل كثيرة في المستشتفيات وبعثة جيولوجية وغيرها. وفي عام 1964 اعتقل بتهمة التسكع بلا عمل ونفي الى قرية في مقاطعة ارخانغلسك حيث عمل في الحقل ووجد المجال للتفرغ لنظم الشعر الذي لم يجد التفهم لدى الدوائر الثقافية الرسمية التي كانت تعامل رجال الابداع بمعيار واحد هو خدمة سياسة الحزب. وفي عام 1972 اجبر برودسكي على مغادرة الاتحاد السوفيتي وسحبت الجنسية السوفيتية منه. وكان السبب الرئيسي هو نشر اعماله في الغرب واستخدام الدعاية الغربية محنة الشاعر كأداة للتحريض ضد السلطة التي لم تتفهم مواقفه. علما انه بعد مغادرته الاتحاد السوفيتي لم يكتب اي شيء ضد السوفيت وتفرغ للعمل في جامعة مشيغان ومن ثم في نيويورك لتدريس الادب الروسي. ولم يعرف عنه أي توجه سياسي بارز كما فعل الكثير من "المنشقين" السوفيت في المهجر.
واليوم يلقى برودسكي التكريم في روسيا ويعتبر شاعرا روسيا . وتبقى اعماله الادبية ذات الطابع الانساني بمثابة وسيلة لمواجهة القسوة في العالم ، بينما يمثل الانسجا م الشعري اداة لمواجهة الفوضى . وهذا بالذات ما يكسب الحياة مغزى ما . فان مأساة الحياة تعالج حسب رأيه بوسائل الابداع. من ناحية أخرى يستمر الجدل حول انتمائه – الى "اللاوطن" ام الى روسيا.