TOP

جريدة المدى > عام > بوشكين صحفياً

بوشكين صحفياً

نشر في: 2 يونيو, 2015: 12:01 ص

من الوقائع التي لا زلت مندهشا امامها - منذ ان عرفتها و لحد الان - في تاريخ الادب الروسي , هو ان بوشكين في يوم مبارزته مع خصمه الضابط الفرنسي دانتيس ذهب الى عمله الاعتيادي , وكان رئيس تحرير مجلة سوفريمينك ( المعاصر ), وهناك مارس عمله اليومي الاعتيادي

من الوقائع التي لا زلت مندهشا امامها - منذ ان عرفتها و لحد الان - في تاريخ الادب الروسي , هو ان بوشكين في يوم مبارزته مع خصمه الضابط الفرنسي دانتيس ذهب الى عمله الاعتيادي , وكان رئيس تحرير مجلة سوفريمينك ( المعاصر ), وهناك مارس عمله اليومي الاعتيادي , اذ قام بتصحيح بعض المقالات كما يجب وكتب بعض الهوامش اللازمة عليها هنا وهناك , ثم ذهب بعد ذلك الى المبارزة , والتي – كما هو معروف – اصيب بها وتوفي على أثرها بعد يومين من المعاناة وكان عمره آنذاك 38 سنة . من الممكن – عند تأمّل هذه الواقعة الحقيقية – ان نصل الى العديد من الخلاصات و الاستنتاجات المرتبطة بها , منها مثلا شجاعة بوشكين وقوة اعصابه ورباطة جأشه والاصرار على حفظ كرامته الشخصية وايمانه القوي والعميق بحقه ...الخ , و لكن يمكن ان نضيف الى كل ذلك ايضا حبه واحترامه لعمله الصحفي والتزاماته تجاهه وارتباطه الحيوي والروحي بهذا العمل وطبيعته .
بوشكين – ظاهرة ثقافية وفكرية كبيرة في تاريخ روسيا , فهو قبل كل شيء شاعرها الوطني الاول , وواضع اسس لغتها المعاصرة , ولا يمكن بالطبع الكتابة باختصار عن مكانته الفكرية واهميته التاريخية لروسيا , وأظن ان كلمات الناقد الروسي ابولون غريغوريف حول بوشكين تختصر ذلك , اذ انه قال عن بوشكين كلمة اصبحت مشهورة جدا في تاريخ الادب الروسي وهي – ( بوشكين – هو كل شيء ), وهذا ينطبق ايضا – وبلا شك - على تاريخ الصحافة الادبية الروسية طبعا . لقد بدأ بوشكين بنشر نتاجاته في تلك الصحف والمجلات التي كانت موجودة في روسيا بداية القرن التاسع عشر , وهناك احصائية طريفة في تاريخ هذه الصحافة تشير الى ان بوشكين نشر 50 نتاجا من نتاجاته في تلك الصحف , بما فيها في جريدة ( ليتيراتورنايا غازيتا ) ( الصحيفة الادبية ) التي كانت تصدر في ذلك الحين , والتي لازالت تصدر لحد الان في روسيا وهي تحمل في عنوانها صورتين لاديبين هما الكساندر بوشكين الذي ساندها بقوة ونشر نتاجاته الادبية فيها وساهم في دعمها , و مكسيم غوركي الذي أعاد اليها الحياة بعد ثورة اكتوبر 1917.
كان بوشكين يحلم ان تكون له جريدة او مجلة خاصة به , يستطيع من خلالها ان يطرح وجهة نظره الخاصة به في شؤون الادب والفكر بشكل عام , وهكذا استطاع الحصول على الموافقات الاصولية اللازمة باصدار مجلة فصلية تصدر اربع مرات بالسنة عنوانها – ( سوفريمينك ) اي ( المعاصر ) وذلك عام 1836 , وقد أصدر فعلا في ذلك العام أربعة أعداد منها . لم تستطع مجلة بوشكين – كما هو الحال بالنسبة لمعظم الصحف والمجلات الروسية في ذلك العصر – ان تكسب المردود المالي اللازم لضمان استمرارية صدورها , اذ انها حصلت على 600 مشترك ليس الا , وهو رقم متواضع جدا لا يمكن ان يموّل تكاليف الاصدار , ما اضطر بوشكين في العددين الثالث والرابع ان يكتب اكثر من نصف موادها وباسماء مستعارة ليخفف ويقلل من مصروفاتها المالية . لقد كانت مجلة المعاصر ذات مستوى ثقافي رفيع جدا , اذ انها نشرت العديد من نتاجات غوغول مثل قصتة الطويلة المشهورة – ( الانف ) , ومقالتة النقدية حول حركة المجلات الادبية , وساهمت اسماء لامعة في دنيا الادب الروسي فيها مثل الشعراء جوكوفسكي و توتشيف وكولتسوف وغيرهم , وحاول بوشكين ان يجذب بيلينسكي للكتابة فيها , ونشرت المجلة موادّ متنوعة من شعر ونثر ودراسات ومقالات نقدية وتاريخية واثنوغرافية متنوعة جدا, ونشر بوشكين نفسه نتاجاته فيها ايضا مثل - ( التاجر البخيل ) و ( رحلة الى ارضروم) و ( ابنة الآمر ) وغيرها.
بعد المبارزة التراجيدية ووفاته, قرر اصدقاء بوشكين الاستمرار باصدار تلك المجلة , وهكذا صدرت المجلة عام 1837 باشراف مجموعة من اصدقاء بوشكين وبنفس الحجم والشكل وكتبوا على غلافها – ( سوفريمينك / مجلة بوشكين الادبية / تصدر لدعم عائلة بوشكين / يحررها فيازيمسكي واسماء ادباء آخرين.. ..) , وقد استمرت المجلة بنفس النهج السابق لها , ونشرت بعض نتاجات بوشكين التي لم يستطع نشرها في حينه , واستطاعت ان تتحول الى مجلة شهرية . توقفت هذه المجموعة من الادباء الروس عن اصدار هذه المجلة عام 1846 وباعتها الى الشاعر الروسي نكراسوف , الذي استمر باصدارها واستطاع ان يكسب اليها مساهمة ادباء روس كبار مثل تورغينيف وغانجروف وغيرتسن وتولستوي و أستروفسكي...الخ , ثم جاء الى المجلة الناقد والمفكر الروسي الثوري تشرنيشيفسكي وزميله الناقد الادبي دوبرالوبوف وتحولت المجلة الى لسان حال الديمقراطيين – الثوريين , وحدث بسبب ذلك انشقاق في هيئة تحريرها وانسحب منها تولستوي وتورغينيف وغريغورفيتش , ثم تم غلقها من قبل السلطة القيصرية عام 1866 . هذا هو التاريخ المختصر جدا والوجيز جدا لمجلة بوشكين سوفريمينك ( المعاصر ) منذ اصدارها من قبله عام 1836 حتى اغلاقها عام 1866 .
لا توجد – حسب معلوماتي المتواضعة – دراسات تفصيلية شاملة حول تاريخ الصحافة الروسية باللغة العربية , واظن انه من الضروري جدا كتابة ذلك بلغتنا العربية كي ندرس هذا التاريخ الحيوي والمهم جدا لاستيعاب وفهم خصائص دولة كبرى مثل روسيا وتاريخها الفكري , والذي يقتضي – قبل كل شيء – ان يستعرض الوقائع التاريخية الخاصة بهذه المادة بشكل عام , والوقائع التاريخية بالصحافة الادبية بشكل خاص , اذ ان هذا التاريخ يعني – بالنسبة لنا - دراسة وتحليل المجتمع الروسي بمختلف جوانبه الفكرية بلا أدنى شك , وكم اتمنى ان يأخذ أحد الباحثين العرب الشباب هذه المهمة , ويدرس تاريخ الصحافة الادبية الروسية , ويقدمها للقارئ العربي , وفي مقدمتها مجلة بوشكين الادبية – سوفريمينك ( المعاصر ) , وذلك باشراف احد المتخصصين العرب في هذا المجال في احدى الجامعات العربية التي يوجد فيها قسم خاص بالادب الروسي وتاريخه , وهذا يقتضي بالطبع – وفي الاقل - تقديم فهارس كاملة لتلك المجلات وخلاصات وافية لمحتوياتها وآراء تحليلية وموضوعية لتلك المحتويات, وهي مهمة ليست بسيطة في كل الاحوال.
دعونا نتمنى تحقيق ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد فريح

    الى استاذي الفاضل و القدير و المحترم جدا البروفيسور ضياءنافع ... السلام عليكم و رحمة الله و بركاته سيدي الكريم اود ان اتقدم لكم بالشكر الجزيل لرفدكم ايانا بالمعلومات الهامة و النادرة من عالم الادب الروسي بشكل خاص و من الاجواء الروسية و من روسيا

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram