كل الناس شاهدوا افتتاح شارع للثقافة في الطريق الواصل بين مرفأ العشار والمدينة القديمة بالبصرة. فما يعرف بحدائق العباسية تحولت الجمعة الى ورشة للتشكيل والنحت والموسيقى وعرض اصدارات الكتب الحديثة، وان كنت اتساءل: لماذا لا يجري اختيار شارع تراثي لهذا الغرض، يكون محميا بشكل افضل، ويربط الثقافة بتلك المساكن التاريخية الهائلة، سواء في البصرة القديمة او العشار؟ وهذا سؤال يتكفل به بصاروة البصرة انفسهم. لكن المهم ان من يزورون المدينة حتى في هذا الزمن المكدر، يدركون ان فيها طاقة روحية كبيرة تحتاج الى شيء من المبادرة والتنظيم كي تقدم صورة اخرى عن مجتمعنا، الذي يقوم البعض باختزاله في صراعات عشائرية بلا نهاية، تمثل استنساخا لكل نزاعات العبث التي تدمرنا منذ وقت طويل.
ولا اشك ان هناك فرصة لنشاهد في الاسابيع المقبلة افتتاح ورش ثقافية اخرى في باقي المدن التي لم نخسرها لصالح جيوش الانتحاريين.
ان ما حدث في البصرة هو جزء اصيل من الحرب على الارهاب، لا يقل اهمية عن حمل البنادق والتضحية بالنفس في الجبهات. وكلما نجحنا باستدراج شاب الى ورشة للفن والتشكيل والقراءة والسينما، فاننا قللنا من فرصة انضمام عنصر جديد للتشكيلات المسلحة التي تمثل خطرا على الجميع، الان او في المستقبل. ولكن ليس هذا هو المهم فقط. بل ان الانتصار الحقيقي على داعش ومن يشبهها، يتم عبر اثبات ان في وسعنا ان نحتفل بالحياة حتى في احلك الظروف. لذلك اناقش احيانا مع المتشددين في موضوع اجتثاث البعث، ان افضل الغاء لهذا الحزب من حياتنا هو الغاء اخطائه. اذ ان البعثيين مسرورون جدا لان ساسة هذه الايام يقومون بتكرار معظم سياسات البعث الخاطئة، سواء في العلاقة مع الشعب او التصور للسياسة الخارجية، او التعامل مع الازمات التي لا تحتاج انفعالا وارتجالا.
ان افضل رد على داعش هو ان نهيئ لابناء المقاتلين، مناخ المعرفة وتربية الاحساس وتذوق الفنون. اما اذا بقي ابناء المقاتلين يعيشون في مدن لا ترى فيها سوى شوارع متربة ووجوها هدها الاحباط، فان داعش تنتصر عليك حتى لو نجحنا في شنق "الخليفة" على اسوار نينوى!
اما ما يؤلم المرء فهو ان مؤسسات الدولة التي تتسابق لدعم كثير من الفعاليات "الاجتماعية" التي قد لا تحتاج دعما، تقف متفرجة ولا تقدم مساعدة حقيقية لهذه الفعاليات، حتى قبل عهد التقشف الحالي. فقد جرى التعامل مع النشاط الثقافي بوصفه عبئا ونشاطا ترفيا فاشلا، يقوم به فاترو الاعصاب وغير الجادين. بينما نتجاهل الدور الحاسم الذي تلعبه الانشطة الثقافية المتقنة، حتى في ترميم علاقتنا بالعالم من حولنا، وفي تنبيه الدنيا الى اننا شعب مساهم في رسم الصورة الابداعية العامة في هذا الزمن، ونستحق الاسناد والدعم ضد كل كارهي الحياة. وكل بلد لا يشهد نشاطات ابداعية منتظمة هو جزيرة معزولة عن العالم، من الطبيعي ان يؤدي الملل والسأم والرتابة بين سكانها، الى تضخيم الخلافات والنزاعات واشعال الحروب الداخلية.
تحية للبصاروة الشباب الذين خففوا شعورنا باليأس. وعتاب لا ينتهي لكل مؤسسة حكومية متخمة بالنفقات الزائدة وصفقات المال الحرام، تتفرج على هؤلاء المبادرين دون ان تبادر لدعمهم وتشجيعهم.
سعادات البصرة والفراهيدي
[post-views]
نشر في: 1 يونيو, 2015: 09:01 م