لا يحفل مأثوُرنا العربي الاسلامي بشيء اسمه عيد الميلاد، إذ لم يستخدم العرب المسجد ديوانا لتدوين الولادات، مثلما فعلت الكنيسة، ولم نقرأ في ما لدينا من كتب ووثائق تاريخية شيئاً دقيقاً عن ولادة احد من اكابر خلفائنا وولاتنا واعلامنا، لكن موروثنا الورقي حافل ومعتن حق عنايته بمقاتل هؤلاء، ويحرص الكاتب العربي على تدوين مقاتلهم ووفياتهم أكثر من حرصه على تدوين أي شيء آخر عنهم، حتى أفرد له العلامة، المؤرخ ابن خلكان، كتاباً سمّاه (وفيات الأعيان).
ففي غمرة انشغالنا بالحرب على داعش والاقتصاد المنهار والارتفاع الطفيف في اسعار النفط وجملة مشاغل أخر فاجأني العظيم، المتصفح الأكبر غوغل بذكرى عيد ميلادي صباح أمس، الثلاثاء، في عناية لم اعهدها عند الاهل بما فيهم الزوجة والأبناء، إذ جعل من الحروف Google كعكة وشموعا وورداً وقطع حلوى في ترتيب أحسد نفسي عليه. هذا الكائن الالكتروني اعدَّ لي، ومنذ الفجر الاحتفال هذا، وأدخل على نفسي السرور والبهجة والشعور بالأهمية. وجعل من فضاء الحروف الصامتة قطعا ملونة، أخذتني الى عالم من الطفولة، بهيج ومخملي. أنا، إذن استحق السعادة، في اليوم الاستثنائي هذا. حتى أن طعم فنجان القهوة كان بمذاق جديد، هذا ما احسست به اليوم، دون سائر الايام.
مع يقيني بأن المتصفح غوغل اعتمد تغذيتي له، حين فتحت حسابي عليه قبل قرابة عشر سنوات، ومع يقيني بانَّ يوم ولادتي المدون في وثيقة النفوس، لم يكن في الثاني من حزيران من العام 1953 بحساب الاهمال الاسري لتدوين مثل كهذا مناسبات، أقول مع ذلك كله، احسست بان اليوم هو يوم جديد، وأن المتاعب داخل البيت والوطن يمكن حلها في مناسبة ميلاد رجل بسيط، لم يبتغ من وجوده أكثر من مما جناه، أقول ذلك وقد تملّكني احساس مفعم بأهمية الوجود الانساني، وأن يوما تحياهُ وإنْ كان بسعادة ناقصة يعني لك الكثير. وسط الشعور بأهمية الايام والليالي تلك، تذكرت أن أبي قصَّ لي حكاية يوم مولدي، هي حكاية تختلف كثيرا في توقيت الأزمنة والسعادات، قد تزدحم فيها البهجة ساعة، لكنها لا تفرّط في نفي الضجر ولا تتوانى أيضاً عن ذكر الآلام.
يؤرخ أبي لولادتي بشكل مغاير فهو يقول بانه ذهب مع من ذهب لكنه كان مُفلسا، ليس في جيبه درهم واحد لاستقبال الملك فيصل الثاني، الذي زار البصرة في شتاء العام 1954. كان الفيضان قد أتى على كل شيء زرعه، وأنه ترك القابلة (أم بدر) عند امّي بدريّة، في غرفتنا الطين، بالقرية في ابي الخصيب حائراً بتكاليف الولادة والطعام والهدية، فقد كان البيت خاليا تماما من الرز والطحين، لكنه فجأة وقع بصره على الارض حين احتشدت الجموع تهتف بحياة الملك، الذي لم يكن شاغله أبداً، فهو مهموم بما هو أكبر من الملك وتاجه، هاله ما رأى من قطع النقود المعدنية المتناثرة على الأرض، أوراق زرقاء وبنية، دراهم وعانات وافلاس حمر وبيض، فخرَّ هابطاً من علياء يأسه إلى أرض فرحه، يلتقط ما تناثر من جيوب المحتشدين، غير آبه بما يبتهج الناس به، وكلما امتلأت يده نقوداً، أفرغها في جيبه، ظل يفعل ذلك حتى فرغت الأرض من حوله. يقول حين وجدت انَّ ما في جيبي ضامن للرز والطحين والحلوى وأجرة القابلة تركت الملك وحيدا منّي، يحتفل بمقدمه غيري فقد وجدت ضالتي وأنتهى الأمر.
اليوم وأنا اعود بالزمن ستين سنة إلى الوراء أجدني طفلاً يقرُّ بأن الأيام والليالي كانت مجزية لفرحه وبهجته، مثلما كانت ثقيلة على كلكله. وهو في الحالين سعيد بحزن قليل وحزين بسعادة ناقصة. لكنّ السعادة الكبيرة التي احسستها اليوم، الثاني من حزيران كانت في عدد أصدقائي، من الذين ألقوا التحية عليَّ عبر صفحتي على الفيس بوك، مهنئين، مسلّمين، مشاركيني احتفالي بيوم جديد من عام جديد، حتى أني بت عاجزا عن الكتابة لهم. أتمنى أن كون الأعوام القادمة أجمل وأسعد للجميع.
غوغل الذي هنأني بعيد ميلادي
[post-views]
نشر في: 2 يونيو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
كامل طاهر
اتمنى ان تبقى تكتب لنا حتى عيدمولدك المائة كل عام وانت تكتب بخير