TOP

جريدة المدى > سينما > خرائط "كروننبرغ" ونجومه..شهادة ساخرة عن أفول مدينة السينما

خرائط "كروننبرغ" ونجومه..شهادة ساخرة عن أفول مدينة السينما

نشر في: 4 يونيو, 2015: 12:01 ص

ليس من اليسير على المشاهد استبعاد صورة النبوءة التي حفل بها فيلم"خرائط إلى النجوم" للمخرج الكندي"ديفيد كروننبرغ" عن افول مدينة السينما "هوليود" بفعل انحطاطها، وهو الذي لا تهمه، نظرا لخصوصية اختياراته الفيلمية، فرية الأحكام الآنية، وكان عد في غير عمل

ليس من اليسير على المشاهد استبعاد صورة النبوءة التي حفل بها فيلم"خرائط إلى النجوم" للمخرج الكندي"ديفيد كروننبرغ" عن افول مدينة السينما "هوليود" بفعل انحطاطها، وهو الذي لا تهمه، نظرا لخصوصية اختياراته الفيلمية، فرية الأحكام الآنية، وكان عد في غير عمل سابق له، من نوع المخرجين الذي تمردوا على سياق "النوع"، وانقادوا للتجريب في إبداعاتهم السينمائية عبر أكثر من مضمار درامي ونوع فيلمي، وكأنه يراهن على ما هو غير معتاد أو حتى بعيد الاحتمال. وكان كروننبرغ قد ترك للجمهور قبل نحو عامين فيلما يعد إلى حد ما، عصيا ومتقشفا فيما يصرح به، هو"كوزموبوليس" سيحتاج إلى وقت أطول للحكم عليه. الأمر ذاته قارب تصريح المخرج كروننبرغ عشية اللغط الذي رافق عرض فيلمه"خرائط إلى النجوم" من أن مغزى الفيلم سيلقى تقديره في زمن آخر. لكن أليس من الأجدى لنا وضع كروننبرغ في سياق أفلامه ذاتها، للاقتراب من دعواه المثيرة دوما، في محاولة متواضعة لتمرير بطاقة مخرج دؤوب حفلت سيرته بأكثر من أربعين فيلما. هل نحتاج لمعاينة هوية كروننبرغ في سياق أوسع، التذكير ببعض أفلامه السابقة على قدر قوتها التعبيرية ولغتها السينمائية المميزة وغرائبيتها أحيانا:
Videodrome) ، A History of Violence ، Eastern Promises ، Crash )
صانع الفيلم المتحصن بالمهارة والمعرفة يمكنه التوقع ان فيلم"maps to the stars" سيكون بنظر بعض المشاهدين قطعة مهلهلة من خيال سقيم منذور للجنس والعنف والغرابة. مثلما يمكنه الدفاع عن فيلمه بوصفه احتجاجا ملتزما على كل ما يميز قصة"هوليود" عند الأميركيين الفخورين بمملكتهم الأسطورية. هجاء مرير يقدمه المخرج للمدينة الاستثنائية أو ما يسمى بماكنة الذهب"هوليود" التي تغذي علاقاتها الراسخة لدى مشاهيرها حس التنافس والغيرة والمكائد، فيما تواصل استوديوهاتها العملاقة على مدار عقود طويلة إنتاج أفلام تافهة وبذيئة ومثيرة للسخرية، مفسدة للعقول ومخربة للذوق، وعليه ليست موعظة أخلاقية القول انها بحاجة ماسة إلى دماء جديدة. لكن من سينصت لنداء كهذا، من دون ضربة موجعة على الرأس؟
في سياق كهذا ربما يمكننا تصور المسوغات المرجحة التي دفعت المخرج لتجريد أحداث فيلمه من المعاني المتوقعة، لتكتسب الصورة لديه بعدا آخر، لا تعدم رمزيته، حينما يتعلق بنظام العلاقات بين الأشياء( الإنسان، القيم، العالم المنشود) وان اتسمت الصورة هنا بثقل مفزع على الشاشة، عبر مشاهد حفلت بنزعات غريبة لأناس مشهورين يتعاطون يوميا صنوف الرياء والابتزاز، وينمون في منازلهم ودوائرهم الفارهة نسل أوهامهم ورغباتهم المشيطنة، كما ليس من الوارد استبعاد حاجة البعض إلى القتل كحل امثل إذا اقتضت الضرورة ذلك. كاتب سيناريو شاب يأمل من عمله كسائق سيارة ليموزين في أن يثير فضول نجوم السينما الذين يصادفهم لقراءة أعماله الفتية، أملا في الدخول إلى حيز الشهرة. فيما تجهد الممثلة"هافانا- جوليان مور" التي افلت نجوميتها، لممارسة تصابيها وتلقي جلسات العلاج النفسي، أو القيام بأي شئ آخر بوسعه إعادة بريقها، من اجل إطفاء قلقها، ولو عبر التعلق بطيف والدتها"النجمة السابقة" والذي سيوصلها إلى حد ارتكاب أفعال حمقاء لمجرد الفوز بدور سينمائي يجسد على الشاشة سيرة الأم المحبوبة جماهيريا.
للوهلة الأولى سيبدو كل شيء غير مترابط، ويفتقد إلى المنطق، لكن مع اقتراب المخرج من دواخل شخصياته والتعبير عما هو غير منظور فيها، سيمكننا التعامل مع فكرة ان الحاضر بات أكثر استعداءً للعقل واستعصاءً على الفهم، خاصة مع من يملكون السطوة على صياغة صورة عالمنا. وكلما توغلنا في أحداث الفيلم تعرفنا أكثر على باطن شخصياته الموتورة داخل إطار أريد له أن يلخص عالم هوليود بشريط إخباري متطرف ومبالغ فيه عن حياة نجومها وخطاياهم. فهذا "بنجي" نجم يافع متعجرف ومدلل، يعيش في ظل رعاية والديه المشهورين أجمل لحظات نزقه وغطرسته، من دون أن يجد خلاصا لمخاوفه من الأشباح التي تطارده في خلوته، فيما تعود ذكرى أخته"اجاثا" التي نفيت بعيدا عن العائلة عقب اتهامها بافتعال حريق في منزل العائلة لدوافع غير واضحة، كاد ان يؤدي بحياة الرضيع"بنجي"، فتم منذ ذلك الحين هجرانها من قبل عائلتها عقوبة لما اقترفته. لكن الفتاة الطموح تحضر هذه المرة كواقع فعلي يحوم حول مبتغاه المحظور. ورغم تحذيرات العائلة التي تخشى على سمعتها من لوثة الابنة، تصل أجاثا(ميا واسيكوسكا) إلى عزلة "بنجي" وتتلاشى المحظورات أمام قوة أحاجيها المغوية وكلماتها التي تحمل أصداء قصيدة الحرية لايلوار، انه نوع من تسلل شهواني مشفوع بهوس المراهقين بفردوسهم المتخيل. ستكون اجاثا فيما بعد مساعدة"هافانا" وكاتمة أسرارها، لكن عزيمتها على الدخول إلى مدينة الأحلام وتحطيم قيودها ستضعها في محور الأحداث اللاحقة للفيلم، لتكون الفاعل الأهم ونقطة الترابط في مسار الأحداث، خاصة وهي ترسم في مشهد قتل"هافانا"في منزلها، بضربات دموية تعرض مفصلة، وتلتقطها الكاميرا بلقطات بليغة تنحدر في زوايا تصوير متقنة، لتظهر أقسى تعبير يمكن تصوره على وجه سيدتها التي تسقط مضرجة بدمائها وأوهامها مثل أيقونة تراجيدية تنحط إلى عالم سفلي. أثار هذا المشهد مع مشاهد جريئة أخرى، حنق جمهور من المشاهدين الذين عدوها مبالغة غير محبذة وتهويل قاس لخطايا حيوات النجوم الذين لا يختلفون عن غيرهم من البشر. لكن الصورة السينمائية في نهاية الامر لا تمتثل إلا لجدارتها في اقتناص الإحساس الجمالي بطاقته التعبيرية الممكنة.
***
يمكن القول ان الأحداث مصنوعة بجمال، لكن بسهولة بالغة لا تستبعد الكليشيهات النمطية، والأشد إزعاجا انها متحيزة ثقافيا واحتجاجية بشكل فج. فالأحداث تتحرك حينا في مسارات كما أراد لها المخرج أن تكون، وليس وفق منطقها الداخلي الذي يفترض ان يوجه نظام سرد أحداث الفيلم ويرسم شخصياته. سنرى الفتاة الحالمة اجاثا التي تنوء بحمل خطايا الماضي، مقادة بوعي يتخطى خبراتها المحدودة المقتصرة على حدوس الغريزة المجربة، وان كان قدومها إلى مدينة النجوم بحثا عن الشهرة، سيعني بحال من الأحوال رغبة دفينة في العودة إلى نوع من البراءة المنشودة، ستبدو مجسدة في المشهد الأخير الذي يجمعها مع أخيها بنجي بعد ان تخلص من أعباء سلطة الأب المنغمس سرا بعلاقة محارم أثمرت طفلين فريدين سيرسمان أقدارهما مثل آلهة تتناسل في السر. ولطي صفحة الماضي الكريه بوحي النسيان والقدرة على مواصلة الحياة، يرقد بنجي وأخته المنتشية في العراء، يهمسان لبعضهما تحت سماء واعدة. هذا العالم المصنوع، البراق، لا حدود لنزواته ونزقه وجنونه، يعلمنا كروننبرغ ذلك، لكن على طريقته.
يمكن القول ان كروننبرغ اختار طريقته الخاصة- وان كانت غير مكتملة أو مقنعة في بعض مواضعها- للشهادة على ان هوليود لم تعد مفخرة للأميركيين كما كانت في عصرها الذهبي، صناعة الأحلام الجميلة باتت موبوءة بالجشع والاستغلال ولم تعد بنظر العديد من روادها أكثر من تفوق تقني حتمه تطور الآلة وهوس المنتجين. أمر كهذا يدعونا للتفكير في النمط الثقافي الأميركي برمته، بغية إفساح المجال لنبوءة سينمائية تستشرف مستقبل مملكة ذهبية تحمل عوامل نجاحها وانهيارها في الوقت ذاته، أسوة بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ. ولكن قد يثمر ذلك النزوع في نهاية الأمر عن فيلم شديد الغرابة والسخرية، فالنوع الحكائي الأليق لجعل الأشياء قابلة للفهم يتطلب وضع الأحداث في إطار أوسع لمنح التعارضات الأشد تمايزا مسوغات مقبولة وشكل فني ملائم.
يشير كروننبرغ إلى انه تعامل مع سيناريو معقد وطويل جدا لبروس واغنر وكان عليه ان يختصر الكثير من صفحاته، ليمنح الفيلم صبغة حداثة مناسبة. وقد تكون النتيجة لغير صالح الموضوع الذي كان يمكن تناوله من دون تصنع أو ادعاء أو إجابات نهائية. صورة قاسية مشفوعة بالدم والأوهام والجنس هي كل ما يبقى مهيمنا على أي تأويل ممكن يحاول تلطيف هذه الدراما الجحيمية التي تسعى إلى أن تكون ملفتة في هجائها المقذع لعوالم السينما الأميركية. هل ما زلنا بحاجة إلى مسوغات كافية تجمع بين سائق ليموزين يحلم بالنجومية مع فتاة مضطربة تبحث عن مغزى لحياتها الضائعة وممثلة تشعر بالغيرة ويقتلها الإهمال بعد ان أدركها العمر، لنكون أمام أحداث نموذجية تدفع القصة إلى مناطق مجهولة، اشد تطرفا وابعث على الأسى، حينذاك تهتز الموازين بشكل غير مسبوق ليصبح كل شيء عرضة للانهيار.
في هذا الفيلم قدمت الممثلة "جوليان مور" التي تخطت عقدها الخامس عرضا أدائيا ملفتا نالت عنه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان، وتسببت مشاهدها العارية في الفيلم في إثارة جدل واسع عشية عرضه في مهرجان القاهرة. فيما اعتبر النقاد ان دورها الملفت في هذا الفيلم هو الأكثر جرأة في تاريخها الفني منذ ظهورها بدور الأم الشهوانية في فيلم "savage grace-2007" .
هوليود: الحلم والقسوة
كان"نهاية هوليود-2002" فيلما متوقعا في مسيرة وودي آلن، مخرج ومثقف من طراز خاص، خبر جيدا عبر مسيرة فنية طويلة، كيف يسدد ضرباته لكل ما يثير حنقه، وبأسلوب تهكمي لا يضارعه احد في إتقان صنعته ليغدو لاحقا بصمته الأسلوبية الفريدة. فيلم آلن، المخضرم في صناعة السينما الأميركية والعارف بخباياها، يقولها ببساطة معهودة، ضمن إطار سردي واضح لدراما ساخرة تعاين أجواء صناعة السينما وكواليسها من خلال شخصيات، يقودها آلن ذاته من خلال تأديته شخصية المخرج"فال وكسمان". أية سخرية أقذع من تلك التي تجعلك تتفرج على عالم زائف، لا حقيقة ولا مقدس ولا قيمة أخلاقية تحكمه، عالم منذور لسلطان المال والشهرة والرياء. في "نهاية هوليود" تخلص وودي آلن مما يؤرقه ولخص على ما يبدو اغلب أرائه ومواقفه التي عرف بها طوال حياته الفنية، مثل من يقدم اعترافا أخيرا في حضرة كنيسة. السخرية هذه المرة تطال كل شيء له علاقة بأوضاع الفنانين في أمريكا، محنة العمل في ظل ظروف تعسفية تقود أحيانا إلى الابتذال واللامبالاة، من خلال النظر إلى طبيعة الأخلاقيات والتقاليد التي تحكم مسار العمل السينمائي لدى المخرج والمنتج والممثل في سياق علاقاتهم المهنية وحياتهم العاطفية.
قبل وبعد فيلم نهاية هوليود، شاهدنا عددا غير قليل من الأفلام التي تناولت بالهجاء الحيوات المضطربة لنجوم السينما وسطوة هوليود على من يدخل بهرجة عوالمها ويتشرب لذائذها والثمن الذي ينبغي دفعه للاستمرار في مجد الشهرة. إجمالا، في هذه المدينة الأسطورية، ليس ثمة مكان للنوايا الحسنة، فإذا لم تكن نجما أو في طريقك إلى النجومية، فماذا انت فاعل في هوليود؟
غرابة حياة المشاهير محكومة بنظام نفعي أهوائي خاضع لماكنة عملاقة ترسخت طوال عقود لتصبح فيما بعد، أنجيل المدينة السحرية ودليل نجاحها القاري. لكن هوليود رغم بوصلتها التي تنحاز لحمى شباك التذاكر لن تخلو يوما من الأفكار الخلاقة التي تجعلنا نعاف بضاعتها الباهتة لقطاف جواهرها الاثمن في أحايين عدة. مع ان البضاعة المستهلكة ذاتها ما زالت تثير حماس الجمهور حول العالم بعد أن أدمن البطولات والغرام وتشرب لذاذة وصفاتها السحرية، نجوما وحكايات ومصائر جميلة شتى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram