ثمة توصيفات كثيرة، ومختلفة، تؤطر واقع " الفن المعاصر"، وتعاينه في كونه شبكة معقدة من الاتجاهات والتجارب البصرية والمشهدية التي تنطوي على صعوبة التعيين والتحديد، والتي تحضر غالباً بطريقة محيرة يتعذر فهمها. تصاحبها، غالباً، بعض تفسيرات تعلل طبيعتها الم
ثمة توصيفات كثيرة، ومختلفة، تؤطر واقع " الفن المعاصر"، وتعاينه في كونه شبكة معقدة من الاتجاهات والتجارب البصرية والمشهدية التي تنطوي على صعوبة التعيين والتحديد، والتي تحضر غالباً بطريقة محيرة يتعذر فهمها. تصاحبها، غالباً، بعض تفسيرات تعلل طبيعتها المعقدة، إلا أنها تنأى، في الوقت ذاته، عن الإفصاح وإيضاح بنية نظامها الفني ودلالات مرجعياتها الجمالية.
أن هؤلاء الذين كانوا ولزمن طويل قد تآلفوا مع فنون الحداثة، شاخصين أمام لوحة مسندية معلقة على جدار متحف، أو في مواجهة عمل نحتي قائم في إحدى زوايا قاعة عرض، بات عليهم، ومنذ ما يقارب النصف قرن، التجوال في داخل العمل الفني والسعي للنظر إليه من أماكن متعددة داخل فضاء العرض ذاته. عمل ربما ينتمي إلى تجارب تجميعية أو إلى الفن المفهومي، أو غيرها من اتجاهات بصرية ومشهدية مماثلة. هكذا صار فعل النظر إلى العمل الفني وتأمله، دعوة أيضاً، لإثارة ردود أفعال وطرح تساؤلات لما تنطوي عليه تلك الاعمال من إثارة غامضة.
لاشك في أن تجارب الفن المعاصر لا تشبه إلا نفسها، ليس لجهة أصالتها، بل بأسباب حضورها في حالة من اللاتوقع والغرابة جرّاء حرية غير مسبوقة تكفلت بوجودها على هذا النحو.
صار الفن المعاصر يحضر بصورة تتمثل طبيعته الانتقالية، وعبر خروجه عن حدود الأنواع الفنية السابقة (اللوحة المسندية، العمل النحتي والخزفي، العمل الفني الطباعي)، والإقامة في فضاء تتقاطع فيه تلك الممارسات الفنية، وتشييد رؤية بنائية مركبة ذات طابع مشهدي قائم على الضدية والمغايرة. والمشغولة بدافعية التفاوض الذي يسمح بالتعديل بين تلك الأنواع العتيدة، من أجل السعي لإزاحتها وإعادة تمثل التجربة الجديدة والبدء معها بحضور غير مألوف.
مثل هذا التحوّل الجوهري في البنية والمعنى الذي بات عليه العمل الفني المعاصر، جعل منه مشروعاً في حالة انجاز، تتلاقى فيه التقنيات الكترونية شديدة التخصص، والوسائط المادية الغريبة والمتعددة، حيث تختلط الخامات ذات الطبيعة الزائلة والمهملة والمحورة والتي تُرّسخ ما يعرض للمتلقي من بناء تركيبي، وتكوينات مفتوحة مثيرة للاهتمام جراء تكفله بخصوصية فنية غير معهودة. وهي، في الوقت ذاته، بديل عن مواد فنية مادية سابقة، احتفظت بتاريخ أدائي وحسي وثقافي عتيد.
عبارة " الفن المعاصر" هي ليست نفسها عبارة " الفن الحديث"، ان التوصيفين مختلفان، في وسائط التعبير كما في حقل القضايا الجمالية اللتين تثيرانهما. لقد أصبح كل ما هو معاصر ينطوي على المفارقة. يستدعي مقولة حداثية للمعماري لوكور بوزيه " توازن يحتاج دائماً إلى أعادة تأسيس" ويغادر في الآن ذاته مقولة أخرى للفيلسوف غادمير: " مهما يكن هذا الإبداع مختلفاً عن خبرة حياتنا اليومية، فانه يمثل ذاته بوصفه تعهداً بالنظام". فالعمل الفني المعاصر يكاد اليوم أن يكون وعياً تقنياً بمهمة خاصة، بل أشبه ما يكون بخطاطة جمالية يتم توصيفها ذاتياً من قبل الفنان ذاته. فيما تكمن أهميته من خلال الآراء المبالغ بها، وطبيعة التضخيم الذي يلاقيه، والتي تفترضها المضاربات، ووساطات سوق الفن، وتعليقات النشطاء الفنيين ومدراء المتاحف والقاعات والقيمين على المعارض، وهي طالما تعلل فضيلة تلك التجارب بشكل غامض وملتبس.
ما يعزز هذا التبرير ويسوّغ له، من كون خطابه التعبيري، نتاج لمقولات واطاريح وممارسات نظرية تندرج في راهنتيها، حيث لا يستدعي مرجعيات واثقة من حدودها وتعييناتها، بل يسعى إلى أن يكون الحاضر، الآن، هو زمن التجربة. وتأسيس مشهد بصري يتماهى مع أدائية غرائبية معدة للعرض وليس للتأمل بكونه تأليفا تعبيرياً فريداً.
لاشك من أن الفن المعاصر يحاول دحض تعينات الهوية الثقافية والجمالية واستعاراتها الناعمة وطابعها الأصيل، إذ بات ما هو مرجعي أثراً جزئيا ووظيفة عابرة الإثارة والتحفيز للتفكير بالمختلف. فليس من مهمات المعاصرة توقع جمالي لعلم مرئي أو متخيل، بل الوصول الى فعل قائم على الحدث وموسوم، غالباً، بالرفض. مخاطباً مجتمعاً معاصراً، يماثله، باستهلاكيته، وتمايزه القائم على أثينيات مختلفة وهويات متعددة من مهاجرين وجماعات وافدة، تستدعي مقولة النزعة العالمية ولامركزيتها وتعدديتها المشتركة. أنه بتعبير أحد النقاد ليس سوى " لمحة ليوتوبيا متعددة الجنسيات".
فن قلما ينطلق من اهتمام جمالي قدر انشغاله بهموم ومضامين سياسية، ونزعات مجتمعية، ناقدة وغير منحازة، وهو كذلك خلافي وتهكمي وساخر ومشحون بالايدولوجيا حيناً وتصورات عن الإخفاق الإنساني حيناً آخر، وينزع كي يخاطب اهتمامات دولية وعالمية عالقة. لكنه في الوقت ذاته لا يتبنى تلك المواقف التي يدعيها.
ليس غريباً أن نشهد ظاهرة نشوء العديد من البينالات والعروض الحاضنة ، في الكثير من دول العالم، واللتان يصفهما البعض بأنهما وريثتا نموذج المعارض التجارية الدولية، والقائمة على تحالفات هي خليط من " مؤسسات تجارية كبيرة، وصغيرة، ترغب في تعزيز شهرة علامتها التجارية، وشعوب تدفع بمنتجاتها الثقافية، وكيانات إقليمية تأمل في تجديد نشاطها". تلك النشاطات التي تسعى للاحتفاء بفن يخاطب جمهور الفن العالمي أكثر من السكان المحليين.
مثل هذا الأمر لابد أن يستدعي تحديدات وتعريفات جمالية جديدة تختبر الفن في نسخته المعاصرة، دوره، ماهيته، وأهدافه، تلك التعريفات والتعيينات التي يبدو أنها آخذة في الازدياد، إلى جانب تصريحات مغايرة تدعي بعدم قابلية هذا الفن على التعريف.