(جزء ثان)
تبجيل الفكرة، وغالباً ما يكون على حساب الإنسان، لا يقتصر على محمولها الديني، أيا كان هذا الدين، وإذا ما جعلت "المقدس الديني" منطلقاً (الجزء الأول من هذا العمود) فلست ممن يوجهون سهام النقد وإعادة قراءة النص الديني (المقدس في وجوه ومناشئ وتصريحات عدة) من حيث سلطته الدينية، وحده، إنما لأن المقدس الديني يضرب أكثر من غيره في عمق ثقافتنا الاجتماعية، المكتوبة وغير المكتوبة، المدونة وما قبل المدونة، وتحكّم هذا المقدس في مجمل تجليات هذه الثقافة وتوجيهها وحراستها ضد أية محاولة عقلية جادة أو نشاط بشري يتصديان لسلطة المقدس لأنها أحد المعيقات الكبرى أمام أية وثبة بشرية نحو الانعتاق من هذه السلطة والالتفات نحو معاينة البشري، الموجود، الماثل، لأنه البيئة الجديرة بالعناية، بحثاً وإعادة ترتيب وانطلاق نحو سلطة الشخص الحر.
من يعبأ بما تطرحه الحداثة على نفسها، أولاً، وعلى مضاداتها الفكرية واللغوية، شعبوياً ونخبوياً، في الصراع الماثل، حثيثاً أو بطيئاً، ثانياً، رغم ادعاءات ثقافتنا القديمة والمعاصرة بشأن حقوق الإنسان، وتقبل الآخر والتعايش بين الأديان والمذاهب والأفكار المختلفة، بل أن فقهاءنا ومفسري نصوصنا، الإلهية والبشرية، القرآنية والحديث والشريعة (سُنية وشيعية) تحيل كل هذه المفاهيم إلى النص المقدس وأن كل ما تحقق وما يتحقق في العلم والطب ومختلف الاختراعات والاكتشافات موجودة في نصوصنا المقدسة، وهذا كذب صريح وتزوير واضح.
جاء في الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى" رواه البخاري ومسلم.
يمكن أن نضع هذا الحديث، ومثله أحاديث كثيرة، في سياقه التاريخي وعلى افتراض الحال "الثورية" التي رافقت الدعوة الإسلامية للانتقال من "الجاهلية" إلى الإسلام، غير أن المثير للعجب أن هذا الحديث حظي باستجابة الآلاف المؤلفة من الإرهابيين، عبر العالم، وفي القرن الحادي والعشرين، يؤيدهم ويسوّقهم ويدافع عنهم فقهاء ومتكلمون ورجال منابر إسلامية، عربية وغير عربية، وها هو يوضع على رايات "داعش" السود رمزاً وفي أفعالهم تطبيقاً في أجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا!
أصوليون؟
نعم. ولكن ما المقصود بالأصول؟
الأصول هي جملة النصوص والمدونات الرسمية، المعتمدة، وفي الصميم منها كتب التاريخ والرواية والتفسير التي أسست للمقدس غير القابل للجدل والفحص والنقاش، وتمثلت بالطبري والبخاري والشافعي ومسلم والكليني والطوسي، رغم ما نشأ بينهم من منافسات وصراعات أملتها "سلطة المقدس".
أسهمت الثقافة الاجتماعية السائدة بتكريس المقدس لا عن علم حتى بتلك الأصول، كما "صنعتها" النخبة المثقفة التي رافقت الدعوة أو تلك التي استمرت بعدها، حتى يومنا، بل ثمة مشكل عويص يتمثل بالعامة من المؤمنين الذين يستظهرون النص ببغاوياً ويرددونه بلغة عمياء وبطريقة انتقائية تستجيب للعابر والراهن والمجتزأ.
إن أجمل ما في تراثنا الإسلامي، بشأن الحقوق العامة والتسامح واحترام الإنسان، جرى ويجري تشويهه بشكل جنوني في حياتنا المعاصرة، ممثلاً بالظاهرة الإرهابية التي بدأت من حيث فشل "الإخوان المسلمون" في تحقيق "الإسلام هو الحل" لينشأ بدلاً منه "جئناكم بالذبح" والتفجير والتهجير ونكاح الجهاد وسبي غير المؤمنات بفكر "داعش" وأخوته العلنيين والسريين، في أجهزة الدولة وفي صحارى الربع الخالي. على أن "داعش" ليس صناعة فردية بل جهود فكرية وسياسية وعنفية جماعية اعتمدت على، وانطلقت من، صلب المقدس، المعصوم، الممنوع على التفكير والتقصي العلميين، وهي ظاهرة إسلامية بالطبع تعيد انتاج الفكرة بما يؤدي إلى الاستحواذ على السلطة والنفوذ بموجب بزنس ديني يسوّق بقوة السلاح والفكرة المقدسة.
انبثاق الشخص الحر
[post-views]
نشر في: 8 يونيو, 2015: 09:01 م