يواصل كريم رسن منذ زمن بعيد تدوين تاريخه الشخصي في الرسم ، تاريخ حضوره في المكان - المدينة ، عبر كل ما تتضمنه لغة الرسم من دوال ورموز وإشارات وعلامات وآثار وشفرات ، وبعض ما تتيحه من وسائط ومواد ، ولطالما عطلت محاولاته التجريبية قدرتي على
يواصل كريم رسن منذ زمن بعيد تدوين تاريخه الشخصي في الرسم ، تاريخ حضوره في المكان - المدينة ، عبر كل ما تتضمنه لغة الرسم من دوال ورموز وإشارات وعلامات وآثار وشفرات ، وبعض ما تتيحه من وسائط ومواد ، ولطالما عطلت محاولاته التجريبية قدرتي على الاقتراب ( كقارئ ) من هذه السيرة الغامضة . كما لو انه المدون الخفي لقصة الخراب المتتابع في حياتنا ، صحيح انه لا يعمل بعيدا عن مغامرات الفن العراقي ، وتحديدا تلك المقترحات (النظرية والشكلية ) التي تصدت لها ريادية شاكر حسن آل سعيد وكشوفاته ، ولكنه ( كريم رسن ) ظل بإصرار نادر يستجيب لقوانينه الخاصة واسئلته الوجودية ، التي لا تعني احدا سواه ، ففي حفرياته الصبورة على جسد مواده او دفاتره الورقية واوركوديانته الكارتونية ، كان كريم يترك آثار ذاكرته المشوشة على الزمن ويمضي .
لهذا كله ، يصعب الحديث عن آخر تجاربه دون الإشارة الى سياق سيرته الفنية هذا ، بخاصة اذا كانت هذه التجربة ، تبتعد عن مدوناته الرمزية ، لتقترب من لحظة الحياة بكل كثافتها العاطفية والحسية .
في اربعة اعمال ، حبر على الورق ، يكتب كريم رسن او يرسم ، لا كبير فرق هنا لناحية الموضوع ، حكاياته الوجدانية ، كمن يلقي القبض على نفسه في لحظة حب ، مشكلا الدوائر الضيقة على شكل ارضيات مرة ، ومرة اخرى يجعلها على هيئة طاولات صغيرة تزدحم بالإثارة .
وتكثيف لحظة الوجود بهذا الاختزال في الفضاء ، ربما هو اللعبة الجديدة في سيرة هذا الفنان الذي حفر اسمه عميقا على لوحة الفن العراقي ، ليستقر في الذاكرة كواحد من اكثر المغامرين مطاولة في الثلاثين سنة الماضية .
عندما يطرح الفنان حكايته ، قصته الزمنية ، فانه يورطنا في تلقي المضامين ، يورطنا في التدقيق في الاحداث والتفاصيل بعيدا عن الكيفية التي تشكلت منها هذه الاحداث وتلك التفاصيل . انها فرصته للانفلات من هيمنة تاريخه الفني ، لصياغة عالمه الداخلي بانشراح نفسي ، انها لحظة العودة الى الحياة اليومية بمزاج معتدل ، الهروب من (الرمزية) الى التعبيرية ، حيث بطلها كريم رسن نفسه والمرأة بحضورها الحسي . لكن لسوء الحظ ، فان تلك الحكايات ليست ملقية على مسرح الإثارة الجسدية بشكل صريح ، هناك من الالم ، من الاغتراب ، من الوحشة الوجودية الكثير ، الالم الذي اصبح شقيقا لروح هذا الفنان . تلك التعبيرات في ملامحه ، تلك الانكماشات الروحية الى الداخل ، ذلك التقعر الاضطراري في المكان الضيق ، هذه البقع السود ، بالاضافة الى المرأة الممتنعة ، المنطوية ، اللامبالية ، ما يجعل من الاسترخاء التام امرا متعذرا ، ومن الحب قصة ملتبسة .
لسنا هنا بحاجة الى مغامرة تأويل الحكايات ، ان ذلك يورطنا في نسيان المقترح الشكلي التعبيري ، الذي بداخله ، وبداخله فقط ، تكمن تحولات كريم رسن الجمالية ، بعيدا عن كريم رسن بطل حكاية الحب هذه .
السؤال الاهم ، هل اننا بصدد قفزة بعيدة عن سيرة جمالية - معرفية دونها الفنان عبر اكثر من ثلاثة عقود ، ام انها مجرد نزوة تجريبية عابرة ، لا ضير بالنسبة لي على الأقل ، سواء واصل الفنان تجربته التعبيرية الجديدة ، ام انه عاد و ركن الى حفرياته القديمة ، الى ولعه بالسطح وشغفه بالخدوش ، فان كريم رسن فنان ينتمي الى نمط اولئك المبدعين ، الذين اختارهم الفن الى جانبه منذ بداياته .
منذ اكثر من ربع قرن ، اتابع عن قرب (كصديق) ، تجربة هذا الفنان الرؤيوي ، كنت ولم ازل مأخوذا بتطور سيرته الفنية ، بتلك الطاقة التي لا تستنزف وهي تتابع تحولات وطن خصته السماء دون سواه بالجحيم ، أستذكر في هذه اللحظات تلك الاندهاشات التي تأتي بها انفعلات كريم رسن ، الدبابات والاسلحة والحرائق التي تزدحم بها لوحاته ودفاتره ، تلك العذابات والآهات ، التي ادمنتها بغداد التي يعشقها .. دون تعب او شعور بالفتور ، كان هذا الفنان الموهوب بعقله وحسه العاطفي كما لو انه يدون آخر الرقم الرافدينية لكي يترك قصتنا مفتوحة على المستقبل ، مفتوحة على المجهول .
كريم رسن في حكاياته العاطفية المختزلة ، يقرر الاستراحة على بساط الحبر الاسود والاوراق البيض ، بعيدا عن حرائق المدن وخرائبها المعمرة ، ليكتب يومياته براحة بال لم يألفها ،، لكنه نسي ان يترك بطل هذه اليوميات يعيش دون تشوهات المدن وخرائبها المعمرة ، ان روحه ممسوسة بالذكرى ، بتلك الامكنة التي وفرت له كل ذلك الدخان العتيق ، دخان الحروب التي تدور دوائرها في الوطن البعيد .
شخصيا ، بعيدا عن اي تقريرية قيمية ، أعد كريم رسن ، شفرة عصية على الفهم المنجز ، طالما ان تجاربه تتحدث عنا تحديدا ، وتغرينا بالتحيز العاطفي معها ، لكنها في واقع الحال ابعد من ذلك بكثير ، ذلك ما يمكن حدسه بقوة دون إمكانية الإعراب عنه بوضوح .
بعض المبدعين هم (ثقافة ) مغلقة وحدها ، أمة من الثقافة تضع خطابها في روح فنان واحد . وهذا التوصيف قد يصح على فنانين آخرين ولكنه مع كريم رسن يصبح ملزما .
شخصيا ، مرة اخرى ، أعد كريم رسن فنانا استطاع ان يطور حاسة جديدة لرؤية العالم ، حاسة تمنعه من رؤية العالم كما نحسه ، بل ربما العالم في ذاته كما يسميه ايمانويل كانت.