(1)
للموسيقي الشهير دانيل بارِنبويم (مواليد 1942) أكثر من حضور في مُجمّع الساوث بنك الثقافي هذه الأيام. فهو محاضر عن الموسيقى في أمسية، وهو عازف بيانو لسوناتات شوبرت في أماسِيّ متتالية، وهو قائد أوركسترا أيضاً، في فترة امتدت من أواخر أبريل حتى أوائل يوليو. ولعله بهذا القياس يتمتع بفضيلة الموسيقي المفكر، والناشط في ما يقتضيه الموقف الخلقي من المثقف والفنان. محاضرته عن الموسيقى كانت في ذكرى الراحل أدورد سعيد، وعلاقة الموسيقي الإسرائيلي والمفكر الفلسطيني حكاية تُروى. فقد التقيا في أواسط التسعينيات من القرن الماضي مصادفة في لندن، وفي حديث عابر سأل أدورد سعيد بارِنبويم: لمَ لا يذهب إلى الضفة الغربية ويرى معاناة الفلسطينيين؟ وحدث ذلك، وتشكلت العلاقةُ الرائعة برابط مشيمي بين طموحين لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وهاجسيْن موسيقييْن بالغَي العمق والاتساع. وأصبح الموسيقي داعيةَ سلام عادل، مدافعاً عن حق الفلسطيني، وشاجباً التعنت الإسرائيلي، حتى إنه هُدد مرتين بالاغتيال حين زار "رام الله" وعزف فيها، وأن جريدة "جيروسليم بوست" كتبت تهاجمه تحت عنوان: "مع أصدقاء مثل بارنبويم، من يحتاج إلى أعداء؟"
العلاقة، التي بدأت في منتصف التسعينيات، لم تكتفِ بالموقف المتبادل، الذي ينطوي على اتفاقات وخلافات، وهذا ما يأسره في شخص أدورد، بل تحركت على صعيد عملي فأسس الاثنان أوركسترا تحت عنوان "الديوان الشرقي الغربي"، والاستعارة من كتاب غوتة المعروف "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، تجمع عازفين شبان من إسرائيل ومن العالم العربي. كما أصدرا معاً كتاباً حوارياً شائقاً وجدياً تحت عنوان "تماثلات ومفارقات"، كانت الموسيقى فيه هي المحور الأساسي، ومقدار تأثيرها الاجتماعي. وبعد رحيل أدورد سعيد المبكر عام 2003 أسس بارنبويم "أكاديمية بارنبويم ـــ سعيد للموسيقى والدراسات الإنسانية"، ومقرها برلين، وستُفتتح السنة القادمة.
يقول بارنبويم عن سعيد إنه من النادرين الذين يعون حقيقة "أن المعلومة هي الخطوة الأولى في اتجاه الفهم، ولذا فهو دائم التطلع إلى "الماوراء" في الفكر، وإلى "اللامرئي" بالعين وإلى "اللامسموع" بالأذن". ولعلها صفة يتمتع بها بارنبويم أيضاً. وتتمتع بها كل موهبة استثنائية.
هناك نوعان من الناس، يرى بارِنبويم، "أولئك الذين يحبون أن يتحاوروا مع من يتفقون معهم فقط، فيحصلون على الراحة المطلوبة، وأولئك الذين لديهم فضول دائم لسماع وجهات نظر مختلفة." وكلاهما من النوع الثاني، بالرغم من أن الموسيقي يعترف بـأن "أدورد سعيد وأنا نملك وجهتي نظر مختلفة في تفسير الماضي. ولكننا الآن أكثر وفاقاً. وتفسيرنا للمستقبل، بالنسبة للصراع الاسرائيلي/ الفلسطيني، متوافق في جوهره. يجب أن تكون هناك طريقة للعيش جنباً إلى جنب، فالانفصال ليس له مستقبل".
محاضرته عن الموسيقى والحياة، داخل بهو "الملكة اليزابيث" الذي يضم قرابة ألف مستمع، كانت موجزة، وانصرفت في أكثرها تتحدث عن قصور التربية الموسيقية في مدارس الغرب، وفي مدارس العالم أجمع. وتُركت ساعة للحوار كان بارِنبويم فيها بالغ الأريحية مع الجمهور، وبالغ الشجاعة في الموقف حين انسحب الحوار إلى القضية الفلسطينية. فقد شجب بقوة التعنت الإسرائيلي الداعي إلى "دولة يهودية" تنكر أي حق للفلسطينيين في الأرض. وكانت استجابة الجمهور لشجبه مدهشة في حماسها. إنه صوت إنساني، من بين اليهود، يذكر بعازف الكمان الشهير يهودي مينوهين، وبصوت المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، ونورمن فنكلستاين وآخرين كثار. ولذلك عارض بارنبويم حماسة بعض المحاورين لمقاطعة إسرائيل، لأنه يعتقد أن هناك عدداً كبيراً من أصوات اليهود المعارضة التي تشبه صوته، داخل إسرائيل. ومقاطعتها تشكل خسارة كبيرة للاحتجاج ضد الدولة التي تنحو منحى دينياً وعنصرياً بالغ الخطورة.
مساهمات بارنبويم في الساوث بنك تتم في ذكرى أخرى غير استعادة أدورد سعيد، خاصة في حقل العزف الموسيقي. فقبل ستين عاماً تقدم بارنبويم على المنصة ذاتها ليعزف أمام الجمهور الإنكليزي وهو في الثالثة عشرة من العمر.