بذلتُ جهدا كافيا للتخلص من ألاعيبه الصبيانية الثقيلة , لكن دون جدوى, فقد ادركت انه يقوم بسرقتي كلما حانت فرصة تصفية الحساب , يعرف اني اكتب عنه الآن وارسم له ملامح هي الى شخصيات شكسبير اقرب جدا , من حقيقة ما هو عليه .. ولما سألني , ويليس بارنستون كاتب
بذلتُ جهدا كافيا للتخلص من ألاعيبه الصبيانية الثقيلة , لكن دون جدوى, فقد ادركت انه يقوم بسرقتي كلما حانت فرصة تصفية الحساب , يعرف اني اكتب عنه الآن وارسم له ملامح هي الى شخصيات شكسبير اقرب جدا , من حقيقة ما هو عليه .. ولما سألني , ويليس بارنستون كاتب سيرة بورخس , كان ذلك خلال احدى زياراته الى بغداد وقد عرّفني عليه صديقي الروائي زهير الجزائري في فندق الأمباسادور في الاسبوع الاول من ايام الاحتلال , لما غادرنا مبنى الجريدة , متأبطين عددا من الصحف والمجلات المتباينة والمختلفة في نظرتها لمسألة الاحتلال , كانت النية في اول الأمر ليس الذهاب الى الأمباسدور بل دخول احد البارات القريبة من مبنى الجريدة , كانت تلك فكرة احد العاملين معنا , لكن زهير رفض الدعوة واشار عليّ بالذهاب الى الفندق للقاء كاتب سيرة بورخس ..
سألني بارنستون قائلا :
ــــ انت تكتب عن شخصية من شخصيات بورخس كما حدثني عنك السيد زهير ليلة امس .. أليس كذلك ؟
قلت له : ـــ كلا .. كلا ..
ثم اردفتُ : ــــ تقصد : اكتب عن رجل ثقيل الظل بصيغة شايلوكية محكمة السوء ؟
لا يستطع اي مخيال تجاوز هذا الرجل الشايلوكي الذي يدس أنفه في موضوعات لا تعنيه , ومع هذا كان لا يني يتدخل من جديد كلما حاولتُ دفعه خطوة الى الوراء , كان يردد أمامي ساخراً وبصيغة ميلودرامية محكمة الدناءة : ــــ خطوتان الى الوراء خطوة الى الامام ..
ـــــ من اين تعلمتَ هذا ؟
ـــــ أمر هذا لا يعنيك . سأتعلم اشياء كثيرة لكي
اتمكن من دحرك عاجلا ام آجلا ..
ــــ آه يا جميل المحيا !!
ــــ اذاً انت تسخر مني ؟
في البدء , اسميته صديقي اللدود , الغريب وجدت هذه التسمية تروق له واي نقد او شتيمة تدفعه ان يكون جذلا ومتعافيا وطعامه هواء آخر الليل , كان بوجهه الطوليّ فاقع اللون وانحناءة كتفيه من الجانبين توحي كلها بالهرم المبكر , حتى ان نظرته تبدو عاجزة عن أن تحط او تستقر في نقطة محددة .. كان يريد ان يدفعني للكتابة عنه لكي اترك له آثارا تزيّن ايامه الخاوية , لعل الخاطر الذي طوّق الفكرة لديّ في الكتابة عنه , هي دحضه ولكي لا يخيب مسعاي في تجنب شروره, بذلت قصارى جهدي في غض الطرف عن بعض افعاله السريّة تجاهي ..
قال بارنستون بحكمة صحفيّ مارس عمله سنين طويلة :
ـــــ الكتابة عن اشخاص يخالفونك الرأي او السلوك تتطلب الوقوف ضدهم او تهيئة حصة من المودة والحب لهم ..
ثم لما صمت برهة من الزمن :
ـــــ هل تكرهه ام تحيد عن شروره ؟
ضحكت : ـــــ كلا لقد افسد عليّ عددا من الاصدقاء بضغينته .
كان الحضور يصغي لنا وتلقّى بارنستون تحية من امرأه اجنبية الهيئة وجميلة الطلعة , ذات عينين واسعتين وفم شهي مثير حقا , واضح انها من بلده او تعرفه عن قرب , جاءت مع حشد المترجمين والصحفيين وكتاب السيرة او الروبرتاج الصحفي , جمهرة من الناس الغرباء تقاطروا على الأمباسادور ذلك المساء , كان احد الصحفيين العرب يبدو سعيدا بمقالته الاخيرة المنشورة في الجريدة التي يعمل فيها , ويده تلوّح بالصحيفة التي حصل عليها اليوم صباحا كما يبدو , لقد التقطها من رجل الاستعلامات توا , كان بارنستون وكذلك صديقي الروائي يحدقان بالصحفيّ العربي الذي بدا سعيدا بمقاله اليوم , ويده لا تكف تلوّح بالمقال الى احد معارفه من اهل البلد , كان صوته واضحا :
ــــ لقد انصفتكم يا عراقيين , بمقالتي هذه ..
وضحك زهير الجزائري ملء فمه وهو لا يكف يهز رأسه على خطوات الصحفيّ العربي وهو يردد بصوت خافت كأنه يحدث نفسه )) ولكن البلد ضاع قبل ان تنصفنا بمقالك !! )) , أدركتُ ان ضيفنا التقط بعض الاشارات الدالة على محتوى الموضوع , عزز ذلك الرأي في ذهني ابتسامة هازئة ارتسمت على ثغر بارنستون في الحال , عندما راح صاحبي يترجم له الحكاية كلها , شاهدت بارنستون كيف يحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال , ولا يكف يرسل نظرات عاجلة للصحفي العربي الذي توارى بين عدد من المقاعد الشاغرة ..
ارتفع صوت المرأة الاجنبية التي يعرفها برنستون شيئا فشيئا بلحن لم يكن غريبا على ذهني وسمعي والتفتُ اليها اسألها إن كانت هذه الاغنية للمغني الامريكي الستيني : آندي وليامز .. وقلت للسيدة ايضا اما الاغنية فاسمها : مون ريفر ...... واشاعتْ ابتسامتها نوعا من الرضا والقناعة .. كنت أرقبها وهي تهمس بضع كلمات لبرنستون , وهو يصغي لها بانتباه شديد وكان حريصاً على اقناعها بتفهمه لما تقوله همساً , ووجدتُ صعوبة بالغة في الكف عن النظر الى ساقيها الجميلتين امامي , ساقان توحيان بسخاء المتعة التي تأتي عن قناعة وليس بالإكراه .. وفجأة قال يخاطبها : كلا .. انه يكتب القصة ولديه فكرة القضاء على شخص ثقيل الظل يريد الانتهاء من وجوده الطارئ .. وقد أسماه الصديق اللدود ...
ضحكت السيدة الاجنبية وهي لا تكف عن تحريك رأسها بإيماءات سريعة .. كنت افهم منها عدم الاهتمام بالذي قاله برنستون عني ..
قلت لها سيكون ذلك في قصتي القادمة ينبغي الخلاص منه أعني الرجل الشايلوكي ثقيل الظل ..
قال لي زهير :ــــ لم اعد اقوَعلى ترجمة كل شيء لتعرف ما يقولان ..
راحت صالة الامبسادور تمتلئ بالنزلاء والرواد واغلبهم من الصحفيين والمعنيين بالشأن الاخباري وتسقّط الانباء ( عن احتلال بغداد ) من هنا وهناك .. كانت اغلب الوجوه غريبة عليّ ولا اعرف احدا منهم وقال لي زهير حين اخبرته بعدم معرفتي للحضور داخل الفندق , قال :
ــــ اغلب هؤلاء الذين تراهم هم من الدول الاجنبية او العرب ..
انتبهت الى ثمة من يراقبني بإصرار وعناد , لم يكن باستطاعتي تحديد وجوده القلق الذي ظل يدفعني الى مرمى بعيد , بدت الاشياء اكثر شدة مما عليه من قبل وازدحمت الصالة بالعديد من الوجوه والناس الغرباء عن بعضهم , أدركت انه لابد من وجود حماية خاصة تحمي المكان والا سوف تضيع كل الجهود التي تبذل لتأمين سلامة الاجانب , ومع تدفق الكثير من الصحفيين والمراسلين , لم تعد الصالة صالحة للبقاء مدة اطول وما عاد وجودنا سلسا كما كان اول الأمر , واقترح بارنستون علينا الانتقال الى البار لكي نخفف من وطأة الضجة هنا .. والحق كنت متلهفا لتناول زجاجة من البيره الباردة , وتناول الآخرون ما ناديت عليه من طلبيات لي .. كان المكان شبه معتم والاضاءة غير كافية للرؤيا التامة , وجدت من الصعب معرفة القادمين وهم يهمون بالدخول فرادا الى البار رغم اني اتخذت مكانا يواجه المدخل بصورة مريحة .. انعطف احد الداخلين بضع خطوات لكي يدير وجهه في المكان جيدا ..
كان شاحب الوجه ونحيف الجسد وثمة انحناءة في كتفيه من الجانبين , تقدم نحوي لما رآني انظر اليه بإمعان :
ــــ اخبروني انك تجلس هنا , لما سألت عنك هناك في صالة الفندق .. هل نسيتني ؟
ـــــ قل لي هل اعرفك اولا ؟
ابتسم بضيق واضح : ــــ أليس في نيتك ان تكتب عني قصة جديدة ؟
ـــــ صديقي اللدود ؟
ـــــ انا أمجد ابن الخبازه !! هل نسيتني ؟ كما نسيت اسماعيل واهملت حياته ؟ الم اكن بطلا لأحدى رواياتك ؟؟ ما أسمها : موت الأب ؟ أليس كذلك ؟
ــــــ وكيف اهتديت اليّ في هذا المكان ؟
ـــ سألت عنك طويلا , حتى اخبرني احدهم متبرعا بالطبع , ليرسلني اليك هنا ..
بعدها , سلمني ورقة صغيرة ومضى منسحبا الى الوراء ليختفي في الحال ويتركني مأخوذا لا ادري ماذا عليّ ان افعل غير ان تفتح اصابعي الورقة الصغيرة التي تركها تستقر بين يدي :
ــــــ اعلم انك ستجعلني اموت على الورق ميتة رمزية ( كما يقال ) ولكني , سأتربص بموتك في احدى المنعطفات , قريبا جدا ..
بالتأكيد لم ينتبه ــــ مترجم حياة بورخس ــــ بارنستون الى ان بطل قصتي القادمة يقف امامي ويوجه اللوم والعتاب لي ولم يكن بارنستون يدرك انه كان يعاتبني بل يعنفني على التمادي معه والاساءة لحياته الخاصة كما اوردتها في روايتي السابقة موت الأب , لكن صديقي الروائي زهير الجزائري كان يهمس بأذن مؤلف حياة بورخس ( مساء عادي في بوينس ايرس ) دون النظر اليّ بل كانت عيناه تركزان على بطل قصتي القادمة وهو يغادر المكان ..
مايس/ 2015