"إلى روح صديقي الراحل مظهر عبد عباس المفرجي بمناسبة ذكرى رحيله"
"بغدادُ طوعَ حنينِهِ عندما تصبح النستالوجيا بديلاً عن استرخاء الظهيرة تحت فيء نخلةٍ عراقيّةٍ، بينما لا يعرفُ حتى أن يطلب فنجان قهوة باللغة الأجنبية، وقد انطلت عليه أكذوبة برتولت بريخت في أنه عائدٌ إلى مسقط الرأس قريباً، أيها المنفي: لا تدقّ مسماراً في الجدارِ، المترجم العراقي هو الآخر انطلت عليه الأكذوبة قبلك، وها هي أرواحنا معلقة كالقمصان في مسامير صدئتْ.. العالم، كله، صار منفى".
لبيرته القويّةِ في مدارِ اليومِ،
والقيلولةِ اللّابدّ منها،
والكلامِ الصعبِ في مسألةٍ أصعبَ من بغدادَ في ليلةِ بعثيينَ يصطادوننا في غرفِ
النومِ،
كما في حانةٍ الأمسِ سنسهرُ عند شحاذٍ بصيرٍ لم يجد للضوء مسربَ نملةٍ، لكننا كنا المضيئين الوحيدين الشيوعيين حتى لو خرجنا من خلايانا إلى خيلٍ تجوب الروح أسئلةً بلا رَسنٍ، نشاكسُ أبرشياتٍ تليداتٍ تضيقُ بلعبةِ الأولادِ، يا هذا أما غادرتَ جملتك اليساريةَ؟
هل عدتَ إلى تاريخِ وَعيكَ؟
ما الذي يبقى من الطبقاتِ في صحن الحداثةِ غير جوع العالم الثالثِ؟
يا هذا، ترفقْ بالحنين، حنينكَ المرَضيّ، حيثُ رصيفُنا ما عادَ يشبهُ أرجلَ الحافينَ،
من يسألُ عمّنْ هذهِ الأيام؟
تمتدُّ المسافةُ، مثل هذي الروحِ: من يأسٍ إلى يأسٍ ونبقى وحدنا، دوماً نكرّرُ وحدَنا حتى بلادِ اللاّرصيفِ، نرتّبُ الأملَ الصغيرَ لعلنا نحظى بذاكرةٍ تسلّي خيبةَ الأولادِ في هرمِ القضيّةِ،
يا صديقي، أيها الماضي المؤبّدُ، يا أخي في الورطةِ الكبرى، ويا رجلَ العراقِ الفذِّ، قستَ حياتكَ المقصوصة الجنحانِ بالريشِ الصناعيّ، وكأسكَ دوخةُ السكّيرِ تشكو فكرة الحاسي، وتصبغ شيب منفانا بحبرٍ أسودٍ، الشخصُ، عند غروبهِ، لما يزل يشتاقُ حتى يتمرّدْ.
"كان مظهر عبد عباس المفرجي يسرق، عام 1978، من مكتب موظف كبير في الدولة البعثية كتباً ومجلات وصحفاً عربية ممنوعة من التداول ليضعها بين أيدينا، نحن "غرفة العمليات الخاصة" المرتبطة بجريدة "الفكر الجديد" بعد أن هرب القادة وكثير من القواعد، لنعيد نشرها وكان هذا، وحده، يستفز سلطة البعثيين ذاك العام المفخخ برجال الأمن في كل زاوية من شوارع العراق".
صديقي مثقلٌ بعراقهِ جدّاً،
بزنزاناتِ تعذيبٍ وشرفاتٍ تطلُّ على جثثٍ معلّقةٍ (كما في ساحةِ التحريرِ/ في بغدادَ)،
بالبيتِ العراقيِّ المطلِّ على قلوبِ الشوقِ والممنوعِ
بامرأةٍ محناة الأصابعِ ليلةَ التكوينِ والتفكيكِ والتقبيلِ والتنهيدِ والفزعِ المبينِ (ليغلسوا عارَ المحبينَ)...
وبـ"الجرداغِ" ذات ظهيرةٍ مبتلةٍ بالليلِ (منذُ الأمس) والأشناتِ تعلقُ بالجلودِ مبلّلاتٍ، كالسياطِ على جسم الشيوعيّ، ولسنا غير مسكونين بالقمح المباغتِ والسنابلِ لم تزل خضراً، لعل الماءَ يبلغُ ما ستبلغهُ الدماءُ...
"يقول مظهر عبد عباس المفرجي إن محمد سعيد الصحاف بدأ حياته إعلامياً في تلفزيون بغداد مقدما للبرامج: قدم برنامجاً يفضح فيه عبدالسلام محمد عارف عميلاً للسي آي أي، ثم قدم مدحت الحاج سري ورشيد مصلح وآخرين من رفاقه قادة انقلاب 8 شباط عام 1963" عملاء للوكالة نفسها، وكان يسجل تلك البرامج في معتقل قصر النهاية".
عدوّي وطني دوماً،
وبيتي حلُمي في أغلى الأحيانِ،
تكفينا بلادٌ من خيالٍ شاسعٍ نبنيهِ من ربعيّةِ "الهبهبِ" واللوبياءِ كيما نتورّدْ.
وذاك الوجه، وجهك، دبّ دبيبها فيه
فغنى وتبغددْ.
لندن – 8 تشرين ثان/ أكتوبر 1998 (*)
(*) كتبت القصيدة في التاريخ المثبت تحتها، أي قبل رحيل صديقي مظهر عبد عباس الذي قرأ القصيدة وقتها، لكنني أضفت إليها، وغيرت، أخيراً، في 6 حزيران/ يوني 2015.
جميع التعليقات 1
عواد ناصر
أرسلت هذا النص كقصيدة تنشر في الثقافية أو تاتو، كما قلت في الإيميل. وبعثت ايضا عمودي الأسبوعي بعنوان (نخاسة إسلامية). يبدو أن الزملاء في المدى لم ينتبهوا للامر! يتوجب التنويه والاعتذار من القرّاء. عين. نون