ما يعتمل في الداخل العراقي، وفي البصرة بخاصة من قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية أكبر بكثير مما يطرح في وسائل الاعلام، وما يدور في المجالس الضيقة من أحاديث في شؤون أخرى ينطوي في بعض من جوانبه على مخاطر حقيقية. ولأن الخوف بات ممارسة مجتمعية فقد تجنب الاعلاميون تناول العديد من القضايا التي تحدث هنا وهناك، في المدينة ذات الملايين الثلاثة، والتي تعرضت خلال السنوات العشر الماضية إلى هجرات عشائرية واسعة غيّرت من واقعها الحضري، الأمر الذي يستدعي المعاينة وإيجاد الحلول .
أثيرت قبل نحو من شهرين قضية النساء الفصليات، بسبب النزاعات القبلية المسلحة التي باتت امراً متوقع الحدوث في أي ضاحية داخل المدينة. وفي الوقت الذي تحدث البعض عن خمسين امرأة قلل البعض الآخر من العدد إلى العشرة أو الخمسة، فيما نفت جهات اخرى الأمر برمته. وكانت الحكومة المحلية قد ساهمت في حملة التعتيم والنفي أيضا هذه، ظنَّاً منها، أنها تمارس نوعاً من التطمين، أو محاولة بائسة في رسم صورة أخرى غير التي أصبحت عليها البصرة. وفي قضية كهذه تتجنب وسائل الإعلام ذكر الاسماء والتفاصيل العميقة أو الاسباب المحورية التي تسببت في النزاعات هذه، فيما يؤكد غالبية أبناء المدنية على أن السبب الرئيس في ذلك إنما يتلخص في سياسة الحكومة الخاطئة، التي غلّبت نظام العشيرة وجعلت من فصائلها المسلحة قوة خارج الدولة وأهملت العمل بالقضاء وقانون الدولة.
يعاني أحد شيوخ العشائر من أنه لا يجد من الراحة في بيته إلا القليل بسبب تنقله في المجالس والدواوين، مساهما في حل النزاعات، فهو إما مدافعا عن أحد أبناء عشيرته مغلوبا وقد أعتديَ عليه، أو مهاجما على آخر مع أبناء عشيرته بسبب تهور احدهم، او هو محمولاً بعطوة، كرجل من طرف ثالث في تهدئة أمر طارئ ما. وقد لا تجد الحكومة في قضية كهذه ما يضيرها، لكننا ننبه ونسترعي انتباه العامة والخاصة لمتابعة مثل هكذا قضايا، فقد يجد نظام العشيرة نفسه يوما عاجزا عن حلول مقنعة كنتيجة حتمية لتفاقم المشاكل والنزعات المسلحة التي باتت تعصف بمجتمعنا في عجز حكومي واضح عن القيام بتطبيق القانون.
ولأنها لم تعد قادرة على إدارة مشاكل مواطنيها الاقتصادية والامنية والسياسية والعشائرية بسبب التقاطعات السياسية وسوء الادارة وانعدام الحنكة. لأنها تعاني من أزمة ثقة بينها وبين مواطنيها، لأنها لا تعرف إدارة الكثير من الملفات.. تتعجل استخدام القوة في معالجة أبسط المشاكل. فقد تجمعت قوات الشغب امام مبنى الحكومة منذ الليلة التي سبقت إعلان بعض المواطنين عن قيامهم بتظاهرتهم في صباح اليوم التالي، في تحسب واضح لما هو أبعد من التظاهر السلمي، ولأنها لا تعرف كيف تتصرف إزاء أبسط المشاكل فقد استنفرت قوتها وضربت بالرصاص الحي المتظاهرين المحتجين على انقطاع الكهرباء في أبي الخصيب. ثم أنها تصر عامدة على تجاهل ما يحدث هنا وهناك، ولا نشير إلى المشكلة التي حدثت بين احد ملاكي البساتين وبين احد فصائل الحشد في ابي الخصيب، حين أراد الأخير توزيع الارض على مقاتليه. وبسبب من مخاوف غير محسومة النهايات، لا أحد يأتي بالحديث عن ما انتهت اليه القصة، بعد ان لاذت الحكومة بالصمت.
آخر بدع حكومة البصرة ما طلبه مكتب المحافظ من الدوائر الثقافية والفنية في المدينة من وجوب إطلاع المكتب على النصوص المسرحية والقصائد الشعرية وكلمات الاغاني وغيرها قبل البدء بقراءتها وإخراجها وتلحينها وعرضها، في سابقة خطيرة لم يقْدِم عليها حتى أقذر رموز النظام السابق ودوائره الامنية آنذاك. وقد كنا شهودها. إذ لم يطلب احدٌ منهم، وفي أي مناسبة شعرية عرض النصوص على لجنة رقابية أو أمنية، حتى لحظة سقوطه في ربيع 2003. نحن لا نتحدث عن تهاون وفراغ في قضايا كهذه، نحن ابناء المدينة، ابناء لحظة قيامتها الكبرى مثلما نحن ابناء لحظة انهيارها المتوقعة .لا نسخر ولا نغمض اعيننا، وما نقول به يهمنا جميعاً. لا نريد أن نُغرِقَ سفينتنا لأننا فيها أيضاً، لا نريد ان تسقط سقوفنا علينا لأننا تحتها كذلك.
البصرة: الحوادث واقعة والكوارث مؤجلة
[post-views]
نشر في: 16 يونيو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...