TOP

جريدة المدى > سينما > السينما و التاريخ في أفريقيا الحديثة

السينما و التاريخ في أفريقيا الحديثة

نشر في: 18 يونيو, 2015: 12:01 ص

 تمثل صناعة السينما في أفريقيا شكلاً للمعالجة والممارسة، ليس فنياً و ثقافياً فقط، بل هو فكري وسياسي أيضاً، كما يقول مباي تشام* في مقاله هذا. فهي طريقة لتعريف، و وصف، و تفسير التجارب الأفريقية مع تلك القوى التي شكلت ماضيها و تستمر في تشكيل الحاضر

 تمثل صناعة السينما في أفريقيا شكلاً للمعالجة والممارسة، ليس فنياً و ثقافياً فقط، بل هو فكري وسياسي أيضاً، كما يقول مباي تشام* في مقاله هذا. فهي طريقة لتعريف، و وصف، و تفسير التجارب الأفريقية مع تلك القوى التي شكلت ماضيها و تستمر في تشكيل الحاضر و التأثير فيه. و هي نتاج لتجارب الأفارقة التاريخية، و لها مظهرها و علاقتها بالتحديات التي تواجه المجتمعات الأفريقية و ذوي الأصلٍ الأفريقي في العالم الآن و في المستقبل. و تؤلف صناعة السينما، كنتاج للخيال، في الوقت نفسه، نمطاً خاصاً من الممارسة الفكرية و السياسية. وعندما ينظر الواحد، بالتالي، إلى هذه الصناعة بوجهٍ خاص، و غيرها من الفنون الإبداعية، بوجهٍ عام، ينظر إلى التبصرات المتعمقة في طرق التفكير و العمل وفقاً للوقائع، و التجارب، و التحديات، والرغبات الفردية إضافةً للجماعية على مر الزمن. و التفكير و العمل الأفريقي وفقاً لهذه الأمور متنوع و معقد، و توفر السينما واحداً من أكثـر المواقع إنتاجيةً لتجربة، و فهم، و تقدير مثل هذا التنوع و التعقيد.

 
إن نسبة مهمة مما يؤلف الفكر الأفريقي و الممارسات الثقافية، و الرمزية، و الفكرية الأفريقية ــ سواء كانت شفوية، أو مكتوبة، أو درامية، أو بصرية، أو سينمائية ــ يمكن تمييزها كاستجابات وتدخلات في العوامل و القوى التي شكلت أفريقيا على مر الزمن. و قد وصف كوامي نكروما (1)، و في وقت أحدث علي مزرو Mazrui (2)، هذه العوامل و القوى، المدرَكة عموماً كثلاثي، بكونها : أهلية، عربية إسلامية، و أوروبية مسيحية. و قد تمخضت نماذج التفاعل، و التلاقح، والتوترات، و الصراعات بين هذه القوى عبر قرون كثيرة على التراب الأفريقي، عن امتداد واسع من الديناميكيات و التحولات المعقدة التي نجم عنها شكل أفريقيا في وقتنا هذا. و قد أحدثت نماذج متنوعة من الفكر و الممارسات في الكثير من حقول الحياة في أفريقيا، خاصةً حقل صناعة السينما. و تعمل السينما الأفريقية كأسلوب ترفيه. و في الوقت نفسه، تحدد نفسها كدور محوري في تعريفات، و تشريع، و أداء الفِكَر و الأيديولوجيات الأفريقية للفرد إضافةً للجماعة والإنسانية، تماماً مثل نظيراتها، التعريفات السردية الشفوية الأهلية و الأدب المكتوب في اللغات الأفريقية والأوروبية معاً. و تتفاعل صناعة السينما مع هذه الأشكال الأخرى للممارسة الإبداعية على مستوى موضوع البحث، و موضوعة، و شكل، و أسلوب، و مفهومي الفن و الفنان و دورهما في العلاقة بالمجتمع. 
و على كل حال، فإن المشاركة الأفريقية في الحضارة العالمية للسينما حديثة نسبياً، تعود بتاريخها إلى الستينات فقط. و كان وضع أفريقيا الأولي في حضارة السينما هذه هو وضع المستهلك المتلقي لمنتجات سينمائية مصنوعة في المقام الأول في الغرب و من إنتاجه. واستخدمت أفلام كثيرة أفريقيا و الأفارقة، و ما تزال، كمادة لاختراع و نشر صور و معالجات عن أفريقيا و الأفارقة متعارضة راديكالياً مع تواريخهم و وقائعهم الفعلية. و بالرغم من المواجهات الفتية المتنوعة التي شهدتها سينما الأفارقة، فإنها نمت بثبات في هذه الفترة القصيرة لتصبح جزءاً مهماً من حضارة السينما العالمية التي قدمت لها ( أفريقيا ) مساهمات مهمة. وهي، على نحوٍأكثر تحديداً، جزء من حركة سينما عالمية النطاق هادفة إلى إنشاء و ترويج سينما شعبية بديلة، سينما تصحح التشوهات والنمطيات التي أشاعتها السينمات الغربية المهيمنة، سينما هي أكثر تزامناً مع الوقائع، و التجارب، و الأولويات، و الرغبات الخاصة بمجتمعاتها هي. 
و نسبة مهمة من الأفلام التي تؤلف السينما الأفريقية تتقاسم القليل من العناصر مع ممارسات سينمائية راديكالية من أطراف أخرى من العالم الثالث، مثل " السينما الثالثة " كما أوضحها فيرناندو سولاناس و أوكتافيو غَيتينو، و " السينما غير الكاملة " كما طوّرها جوليو أسبينوزا و " السينما الجديدة Cinema Novo " كما بيّنها غلوبر روتشا و غيره. و هي تُظهر أيضاً تماثلات مع عمل سينمائيين بريطانيين سود و أميريكيين أفارقة مستقلين، و سينمائيين هنود مثل ساتياجيت رَي و ميرنال سين. و لا تتجلى هذه الموازيات فقط على مستوى الشكل و الموضوعة، بل أيضاً في إنتاجها، و توزيعها، و ممارسات عَرضها و تحدياتها.
و يُعد التطور المهم في الثقافة السينمائية الأفريقية، في العقدين الأخيرين، منعطفاً نحو موضوع التاريخ. و منذ ابتدائها في الستينات و السبعينات، ركّزت نسبة مهمة من السينما الأفريقية و ما تزال تركز على قضايا العنصرية، و الاستغلال و الظلم الاستعماري، و الموروث و الحداثة، والآمال، و الخيانات و الاستياءات المتعلقة بالاستقلال، و الهجرة و قضايا أخرى كثيرة تتعلق بالعدالة الاجتماعية. و ظهرت عملية إضفاء صفة التاريخ على هذه القضايا، إضافةً لإبداع قصص مستندة بشكل رئيس على أحداث التاريخ، و أشخاصه، و مواضيعه، في السنوات الأخيرة، كسمة بارزة للثقافة السينمائية الأفريقية. 
و قد استحق موضوع التاريخ الأفريقي اهتمام عدد متزايد بثبات من الأفلام التي أنجزها أفارقة في السنوات الأخيرة. و الكثير منها مكرَّس للتعامل النقدي مع الماضي الأفريقي و استنطاقه لغرض النظر و إعادة النظر في أوجه ذلك الماضي من وجهات نظر أفريقية. كما تتخذ هذه الأفلام من التاريخ طريقةً لتأمل و تفهم أزمات و تحديات كثيرة تواجه المجتمعات الأفريقية المعاصرة، إضافةً للمستقبل. 
لقد قُدمت قصص الماضي الأفريقي في الغالب من وجهات نظر الأوروبيين الذين استعمروا الكثير من أفريقيا. و هي تركز على قصة الأوروبيين في أفريقيا و تقدمهم كمؤرخين أصلاء لأفريقيا، و كجالبين للتاريخ و الحضارة إلى أفريقيا من دون تاريخ. و يُقدَّم التاريخ بالتالي مختزلاً إلى خدمة لتبرير مشروع التوسع الاستعماري و الاستيطاني إضافةً إلى بعثة تحضير تُصوَّر بأنها عمل خيري و حميد و عقاب من الله. و تمحو نصوص التاريخ هذه قصص أفريقيا قبل حلول الأوروبيين و العرب. 
و يقدّم عدد لا بأس به من صانعي الأفلام الأفريقية الحديثة نصوصاً من الماضي الأفريقي من وجهات نظر أفريقية تعارض و تدحض التقارير الأوروبية الرسمية، و الشعبية أيضاً، و تقدم تواريخ أكثر تعقيداً و توازناً، خاصةً تواريخ العبودية، و الأمبريالية، و الكولونيالية، و ما بعد الكولونيالية. و علاقتها بالموضوع و امتداداتها الزمنية واسعة، و تغطي شخصيات و حركات وأحداث جماعية في الفترات ماقبل الكولونيالية، و الكولونيالية، و ما بعد الكولونيالية من التاريخ الأفريقي. 
و تتنوع الطرق و الأساليب في هذه الأفلام أيضاً، و تتراوح بين الطرق الواقعية التخطيطية linear إلى تلك غير التخطيطية، و الرمزية، و أحياناً التجريبية. و بينما يستمد استنطاقها التاريخ و إعادة إنشائه بشكل تحيّزي و بطرق مخالفة نقدياً من مصادر مثل الوثائق الرسمية و القصص إضافةً للتقارير المركزية الأوروبية، فإن مؤسستها هي التراث الأفريقي من التقاليد الشفوية والذاكرة. و سواء كانت هذه الأفلام وثائقيةً أو قصصية، فإنها تهتم بالتأمل النقدي الهادف واستنطاق الطرق التي ضُمِّن التاريخ بها في أنظمة الهيمنة و استعباد الأفارقة و تحريرهم، و هو محفور تماماً في حاضر أفريقيا و مستقبلها.
* الكاتب من أصل غامبي، دكتوراه في الفلسفة و بروفيسور و رئيس قسم بجامعة هوارد، حيث يدرّس التقاليد الشفوية، و الأدب الأفريقي الحديث، و السينما الأفريقية و سينما العالم الثالث.
(1) كوامي نكروما ( 1909 ــ 1972 ) قائد نضال غانا و رئيسها بعد الاستقلال. 
(2) علي مزرو ( 1933 ــ 2014 ) بروفيسور أكاديمي و كاتب سياسي كيني. 
 عن: africanfilmny.org

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram