تحظى آلات الناي والمنجيرة والعود بتراثية خاصية لما تملكه بصوتها الباعث للحنين في اهتمام المخرجين" توفيق بيهم " و" كارل غوغ" اللذين يفتحان العدسة على البتراء في الفيلم الوثائقي "بعد غد" (after tomorrow)، لتكون ضمن فيلم وثائقي مفتوح ع
تحظى آلات الناي والمنجيرة والعود بتراثية خاصية لما تملكه بصوتها الباعث للحنين في اهتمام المخرجين" توفيق بيهم " و" كارل غوغ" اللذين يفتحان العدسة على البتراء في الفيلم الوثائقي "بعد غد" (after tomorrow)، لتكون ضمن فيلم وثائقي مفتوح على السياحة وتأثيراتها الايجابية والسلبية وبجمالية تمنح المعرفة تاركين للفيلم موضوعيته البعيدة عن المحاباة الاخراجية.
لتتحول الصورة المرئية الى بطاقة دخول الى الاردن من خلال رؤية وثائقية لعب الاخراج فيها بدهاء وحنكة لعبة الدخول القسري للمشاهد على الآثار التي تفرض روعتها على البصر، وبانسجام سمعي تصويري ذي تقنية احاطت بالحواس تاركة للادراك استنباط الحقائق من هذه الجبال الفارهة الجمال حقيقة التاريخ القديم الذي صنعه الانسان في الماضي، وجذب اليه الانسان المعاصر في زمن باتت السياحة فيه مورد رزق لعائلات تسكن هذه المناطق التي استطاع كل من "توفيق بيهم "و"كارل غوغ "العيش معهم واظهار اساليب حياتهم، فازدهار السياحة فيها يمثل مورد الرزق الحقيقي لهم ، فهل لموضوعية الفيلم "بعد غد" اهداف فنية بحتة ام هي دعوة مفتوحة لرؤية الحجر والبشر والجمال الغارق بفرح قوم استطاعوا منح انفسهم لغة الوجود المعاصرة ؟
رحلة يقوم بها المشاهد مصحوبا بعين سحرية تجعلك ترى بموضوعية كل تفاصيل بلاد تعكس اثارها البدوية اصداء الموسيقى التي تميز بها "جوناس هلبورغ " مع اصوات الالات الاخرى الشعبية في المنطقة، واصوات لخطى عربات الخيل التراثية معا. هو ليس فيلما سينمائيا بالمعنى الدرامي. انما رحلة مثيرة تم اعدادها بدهاء فني بسيط وعفوي في الظاهر، ومخطط له بعمق واضح ويهدف الى الامتاع والعيش مع معاناة هؤلاء سكان منطقة "البدول" الذي يسكنون في البتراء وبواقعية تنقلنا من شيخ الى كهل الى امراة فطفل، برغم ان المرأة الاردنية لم تظهر الا من خلال امرأة عجوز اسبغ وجودها في الفيلم تعطشا لمعرفة المرأة الاردنية بشكل اكبر . لان كلامها دل على قوة المرأة الاردنية وارادتها في الحياة وتمسكها بالعادات والتقاليد وكينونتها كامرأة تعيش على أرض صحراوية في طبيعتها التي تتشابه مع الانسان وقوته في الحفاظ على البقاء ومحاكاة الواقع الذي يعيشه بشتى الطرق.
رسمت العين الاخراجية في فيلم "بعد غد" لوحات للحياة الواقعية في امكنة لا يمكن الا ان تصرخ من شدة جمالها يا الله، وبمعالجات فنية قدمت اضافات بصرية تزدان بتفاصيل تاريخية واجتماعية، وبشكل فني يفرض عليك المتابعة دون استئذان . اذ تلعب الشخصيات في الفيلم دورها في خلق الحبكة الوثائقية المثيرة مثل محمود وهو مرشد سياحي وسكوتش وهو ايضا يهتم ببيع السياح بطاقات تعريفية والملقب بجوني ديب الخفيف الظل والرجل العجوز من عشيرة الفقير الذي يروي عن اهل البتراء واصولهم العشائرية وخصوصا عشيرة البدول وتاريخها وآخرين من هذه المنطقة التي تتمنى ان تزرورها مرة ثانية وثالثة بعد نهاية الفيلم، وكأن العين الاخراجية هي فرد من هؤلاء الشخصيات التي تعيش في هذه المنطقة الحافلة بالسائحين الغربيين من كل مكان وخصوصا ان البعض من السياح قد تزوج من اهل هذه المناطق، وعاشوا منسجمين في هذه البيئة العربية التي تميل الى البداوة في تقاليدها وجمال الاثار فيها.
فاطمة العرب وهي مارغريت سابقا التي جاءت من نيوزيلندا وتزوجت من رجل من عشيرة البدول وتعلمت اللغة العربية وعاشت بوفاق وسعادة وانجبت كما سيمونا الالمانية التي جاءت الى البترا وتزوجت من عشيرة الفقير وهي سعيدة في ما روته عن نفسها.وكأن الرواي يضعنا امام الانسان والانسانية التي تجمع بين البشر بالحب والانجاب والعيش بمودة ومحبة مهما اختلفت اللغة او الاماكن وباسلوب قصة واقعية هي من الحياة التي عشنا تفاصيلها في هذا الفيلم الوثائقي الذي يجمع بين الاهتمام والمعرفة والنقد المحبب المتروك للمشاهد صياغة معناه، وكما يريد دون فرض الرؤية وبتجسيد صادق ارتفع فيه صوت المؤذن في جامع منطقة البدول التي تتمسك بكل اصولها حتى عبر الزواج بالنساء الغربيات وضمهن الى العائلة بفخر واعتزاز .
لم يغفل كل من " توفيق بيهم" و" كارل غوغ" عن فكرة امتاع المشاهد بحقيقة مروية على السن شخصيات تتصف بروح الدعابة، وبما يستحق المعرفة والسمو بهذه البلد التي تحفل بابناء يتكلمون لغة انكليزية بطلاقة الى جانب لغتهم العربية ، والتي استطاعوا التقاطها من السياح بين اثار تضج بمعجزات الانسان الذي نحت من الجبال بيوتا وبقيت تحاكي الاجيال بشغف هندستها وقوتها بالمحافظة على البقاء، وما بين الرواي والشخصيات ناي يتحدث عن حنين جبال تشتاق الى السائحين والزوار من كل حدب وصوب حتى ليشعر المشاهد انه في كهف له صداه وجماله التاريخي المنقوش على جدرانه حضارة عريقة هي حضارة البترا وعشيرة البدول، وبشكل فني تتعاقب فيه المشاهد بتسلسل لا يصيب المشاهد بالرتابة. لانه يعتمد على السن تتقاطع بينها المشاهد التي تخطف الابصار وتترك السمع بحاجة الى الرواي والشخصيات الاخرى لسماع قصصهم الهادفة الى تبسيط الفهم الاجتماعي في هذه المنطقة التي انحصرت في مساحة ضاقت عليهم ولكنها لم تمحو منهم الجوانب الحياتية الاخرى.
تتر دمج اللغة بضحكة ترتسم على الشفاه بعفوية لما تحمله من روح الانسان الذي سخّر اللغة مع لحنه الخاص، لتكون كمحاكاة عالمية مفهومة كما نبعت من وجدانه كعربي هو في نفس الوقت مرشد سياحي هو مواطن عادي هو اردني يعشق تراب البتراء المعبأ في قارورة من زجاج يرسمها بدقة لتكون شارة النهاية والتي ترمز الى الفيلم بالكامل، ومعجزات حضارة جذبت اليها الكاميرا التصويرية التي استطاعت تصوير المشاهد بانفتاح اخرجها من القارورة الى العالم لتكون بطاقة سياحية مفتوحة لزيارة هذه المنطقة او التطلع اليها ليرتقي شعبها كما ترتقي جبالها، وتسمو مع الضوء الذي سلطته الكاميرا من علو الى انخفاض وبالعكس وكأن الروح تدب في اوصال هذه الجبال الشم.
فيلم "بعد غد" ليس فيلما سرديا يروي فيه الرواي حكاية البدول ولا ذاتيا . انما هو مزيج من عناصر الشكل التي حققت بتنوعها مؤثرات خاصة ومعرفة منسوجة ببنية النص بمعنى ما يقوله الرواي وعدد المشاهد التي تتوافق مع انعكاس الحاضر الان في البتراء وعدد اللقطات ومدة المشاهدة وما بين لقطة ضيقة لاشخاص يسردون بروح الفكاهة واقعهم الحياتي، ولقطة متسعة لجمال طبيعة البترا موسيقى تصويرية ومؤثرات فنية وقارورة من زجاج لرسم رملي تم ضغطه امام سرعة الكاميرا التي اختصرت المسافات واخذتنا معها في رحلة الى البتراء ، ومنطقة البدول تاركين للجبال في البتراء صمتها ومعجزاتها التي تمحو تقليدية البداية في الافلام الوثائقية .
الفيلم للمخرجين توفيق بيهم وكارل غوغ وقد شارك في مهرجان طرابلس السينمائي للافلام 2015 .