قبل ان اتحدث عن محنتنا مع الجنون الذي عمره عقود طويلة في هذه البلاد، اريد ان اشير الى محنتي الشخصية مع نص جميل ونابه كتبه الاخ مصطفى الصوفي على فيسبوك حول زيارته لايران تحت عنوان "الرحلة الى ايران". فقد اهتم عشرات الاصدقاء بقطعة رشيقة من الملاحظات الايجابية حول المجتمع الايراني، وهي صورة تغيب عن الجمهور العربي المشدود بالاعتراض على سياسات طهران، والغافل عن خصوصية المجتمع المتحضر والمبدع في بلاد فارس، وهو مجتمع مجاور لنا وشريك حضاري كان مبدعا على الدوام، قبل الاسلام وبعده، رغم كل الخصومات القومية والدينية.
ولانني مثل غيري كنت معجبا بهذه الملاحظات، فقد شاركتها على صفحتي في فيسبوك، باشارة واضحة الى الحساب الشخصي للسيد الصوفي. مع ملاحظة سجلتها هي ان التحمس لايجابيات ايران لا ينبغي ان ينسينا الجانب الاخر القاسي والصعب الذي يعيشه المجتمع الايراني، والذي يحتاج الى حزمة ملاحظات اضافية. لكن المصادفة التي حصلت هي ان عشرات الاشخاص ومواقع الانترنت تداولت نص الاخ الصوفي ووضعت اسمي عليه، سهوا، وهو ما اشار اليه الكاتب الاصلي وعلقت عليه شخصيا طالبا تجاوز هذا السهو. ثم فشلنا انا ومصطفى الصوفي في ايضاح الحقيقة، لان الاشارات استمرت للنص الجميل، وبقي منسوبا الى سرمد الطائي وجعلني محتاجا لهذا التوضيح. اذ تلقيت رسائل كثيرة من كتاب معروفين ورجال ونساء مشتغلين بالثقافة والصحافة، يسألونني عن صحة انتساب هذه الملاحظات لي. والحقيقة انها ملاحظات جميلة اتشرف بنسبتها الي، سوى ان الاصدقاء انتبهوا الى انني لا اكتب بتحمس مطلق حول الوضع الايراني، لانني عشت مطلع شبابي هناك وتعلمت اللغة الفارسية المموسقة، وترجمت نحو عشرة كتب منها الى العربية، ولدي تحفظات حول اشياء معروفة. كما ان الصديق الصوفي كان "يجلد الذات" في لحظة غضب مشروع، وينتقد "المشرگة، وعربان الغربية" مقارنا بالتحضر الايراني. ومن المعروف انني حذر من جلد الذات بهذه الطريقة، واستطيع بعد سنوات طويلة من الكتابة ان اضبط جزءا اساسيا من انفعالاتي المشروعة وغير المشروعة.
واحسب ان هذا التوضيح يكفي لقطع التساؤلات بشان الملاحظات الحلوة عن ايران. لكنني اريد الخوض على نحو السرعة في تعليقات وردتني حول اخر اربع مقالات نشرتها، وقال الشباب انها "على خلاف العادة" واضحة التشاؤم. وقد كنت اتحدث طوال سنوات بتفاؤل حذر، خلاصته ان في البلاد مسارا متعقلا، يتلكأ احيانا او يتراجع، لكنه قادر على تخفيف سوء الكارثة، ويحتاج الى سنوات من العمل لاعادة وضعنا على خارطة الشراكة مع الدنيا، واخراجنا من العزلة وسط الكارثة الطويلة التي نعيشها. ولا اكتم الناس ان ما حصل في اخر ست شهور، نال من درجة تفاؤلي تلك. لكنني غير نادم على كل حرف كتبته في الجرائد، وكل عبارة رددتها في التلفزيونات، بشأن وجود امال لتخفيف مستوى الكارثة. ذلك ان الجنون يستفحل في بلادنا منذ عقود، وهو يتصاعد ويتفاقم، وكل الاطراف بلا استثناء مشاركة فيه، رغم اختلاف درجة جنونها. لكنني مثل الاف القراء الكرام، والاف التكنوقراط والمبدعين والخبراء ورجال الاعمال، ومربي الاجيال، والشباب الشجعان الذين يصنعون السعادات والفنون والشعر والموسيقى والشجاعة في جبهات القتال... كلنا لانزال نمتلك شجاعة ان نبقى في العراق، ونطرد شبح الهجرة المتاحة لكثيرين منا. لازلنا نتجول في شوارع بغداد والبصرة والنجف واربيل، وعلى مرمى عصا من داعش احيانا، ووسط رعب الانتحاريين، ووسط رعب المتشددين "غير الداعشيين" ممن يعيشون معنا في نفس الزقاق. وهذا يعني اننا متمسكون بهذه الارض، مؤمنون بان طعم الكارثة اللاذع، لا يعني ان نستسلم لنزوات المجانين، الذين كانوا موجودين على الدوام، سواء في العهد الملكي او الجمهوريات "ناقصة الحكمة" او عهدنا الجديد المصاب بالدوار.
نحن هنا، ولن نستسلم للجنون، وهذا هو المعنى الوحيد للتفاؤل وسط اسوأ النوازل والمحن.
استسلام للمجانين.. وملاحظات ايرانية
[post-views]
نشر في: 17 يونيو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ياسين عبد الحافظ
بسبب مهنتى كصيدلى تم تنسيبى للعمل فى م. الشماعية زمن صدام كنوع من العقوبة ، علما ان خدمتى كانت كافية لتبعدنى عن الشماعيه حيث تعتبر مكان خاصا يعادل القرى والارياف للخرجيين الجدد من مهنتى مع ذلك ذهبت للشماعية ينتابنى حدس بان التجربة الجديدة ربما ستضيف لى ن