النجف مدينة للمقابر كما يراها البعيدون عنها، لكنها أيضا المدينة الضاجة بالحياة والجدل كما يرى القريبون منها. هذا ماحاول أن يقوله الروائي والباحث زهير الجزائري وهو يكتب سيرة مدينة النجف في كتابه الجديد( النجف.. الذاكرة والمدينة) الصادر عن دار المدى/ ب
النجف مدينة للمقابر كما يراها البعيدون عنها، لكنها أيضا المدينة الضاجة بالحياة والجدل كما يرى القريبون منها. هذا ماحاول أن يقوله الروائي والباحث زهير الجزائري وهو يكتب سيرة مدينة النجف في كتابه الجديد( النجف.. الذاكرة والمدينة) الصادر عن دار المدى/ بغداد 2015
يفتتح الجزائري كتابه بنص المغادرة، إذ يحوّله الى موجّه سردي وتاريخي وسيري للأحداث واليوميات والسرائر التي يستعيدها الكاتب، بوصفها سيرة لمدونات ذاكرته، وشهادة كاشفة عن عوالم المسكوت عنه في المدينة( غادرت النجف في العشرين من عمري، وغادرت العراق بعد أربعة عشر عاما، متنقلا بين خمسة مناف و42 و7 أماكن عمل و3 زوجات. بدّلت حياتي وشكلي ولهجتي ولغتي مرات، وكنت خلال تنقلي في المنافي أستبدل مع الغرفة بحياة وأزيح المدن تباعا من ذاكرتي، لأهيّئ نفسي للمدينة الجديدة)ص5
ثمانية وعشرون مَبحثا هي ما شكّل وحدات المتن السيري للكتاب، مثلما شكّلت حافزا للمتخيل السردي للكاتب وهو يقارب عوالمه المستعادة، إذ تضعنا هذه الوحدات أمام مدينة كونية، مدينة يستعيد عبرها الكاتب وجودا عالقا بذاكرته، ومعنىً خبيئا بسحره يتسرب الى الكثير من كتاباته، وتاريخا للعائلة والأفكار التي يشتبك فيها الديني والعلماني..سيرة العائلة وهجرة الجد الأكبر من الأهوار الى مدينة النجف تمثل الوظيفة السردية للانتقال التاريخي الذي عاشه الأبناء والأحفاد، ولطبيعة التحول الفكري وللارتحال القدري الذي عاشته وهي تنتقل من فضاءات الماء الى مدينة الكلام، حيث يشكّل أجداده الثلاثة عبد الكريم، ومحمد جواد، وعبد اللطيف سر النقائض التي عاشها فيما بعد الكاتب، فهم بالنسبة إليه( الماء والنار والذهب)ص10 كما يسميها، وقد استثمر الكاتب هذا التحوّل للكشف عن علاقته العميقة والمثيرة بالمدينة، ومع سيرتها المقدسة، وسيرتها النضالية، وسيرتها السرية المفارقة التي يمثلها الأب الشديد الاهتمام بأناقته وبآله العود التي يضعها عند قلبه وهو يعزف المقامات وأغاني عبد الوهاب مغمضا ص12..يستعيد الكاتب الوجه السحري للمدينة من خلال الحديث عن(الصحن العلوي) الذي يضم مقام الإمام علي بن أبي طالب بقبابه الذهبية، وعن تعالق هذا المقام برمزيته الروحية مع الكثير من الأساطير التي يولّدها المريدون، فضلا عن الحمولات المعجزات التي يتحدث عنها النجفيون، وشفرات التضرع الحافل بالصور الشعرية والبلاغية.. المستوى السيري للمدينة يأخذ أبعادا توصيفية، وتجليات نفسية يرسم لها الكاتب أطرا تبدأ من توصيف الطقوس، وما يقوم الزائرون القادمون من كل بقاع الأرض للتبرك وللانشداد الروحي الذي يعيشونه.. كما يضعنا الكاتب أمام مستوى توصيفي آخر للمكان الجغرافي من خلال الحديث عن المحلات الاربع التي تمثل الجغرافيا الديموغرافية للمدينة القديمة للنجف وهي(محلة العمارة ومحلة المشراق ومحلة الحويش ومحلة الدرعية) تلك التي ترتبط بالعوائل النجفية المعروفة، وبالتشكلات الدينية والاجتماعية التي كانت تمور فيها مدينة النجف، بوصفها المرجعي التقلدي، أو بوصف بعضها بالإصلاحي والتنويري، والذي يكشف عن عمق المدينة الثقافي والإنساني، وبطبيعة الجدل الذي أثارته شخصيات مهمة في ذاكرة المدينة مثل السيد الحبوبي، والسيد ابي الحسن الإصفهاني، والشيخ كاشف الغطاء والشيخ محمد رضا المظفر وغيرهم..
سيرة المدينة كما يراها الكاتب لاتتبدى عبر مركزيتها الدينية والاجتماعية حسب، بل من خلال دورها الثوري المؤثر في قيادة الجماعات الغاضبة ضد الاحتلال، وفي مواجهة كل مظاهر الاستبداد السياسي، فضلا عن دورها الكبير في المطالبة باستقلال العراق، حيث خوّل(شيوخ ووجهاء وتجار وقعوا الوثيقة المطالبة بالاستقلال قيادتهم للشيخ عبد الكريم الجزائري) ص51.. وبيت الجزائري- أجداد الكاتب- يمثلون بعض مظاهر الصورة المثيرة للمدينة، فالكاتب عاش بينهم، وتعرف على نقائض الحياة من خلالهم، وعاش معهم صراع الأفكار والأمزجة، مثلما تعرّف على عمق المقدس في تمظهراته الدينية والثقافية والاجتماعية والطقوسية في عاشوراء، والذي يمثل جوهر الطقوس الشيعية حول رمزية الامام الحسين بن علي، إذ تتحول المدينة الى فضاء استعادي للذكرى، وتحفل بالكثير من منابر الرواديد وأصوات الخطباء، وكذلك المواكب التي يشارك في استعراضاتها الكثير من الشباب والشيوخ..
كما أن الصياغة الوصفية لأغلب مباحث الكتاب أسبغت على الكثير من الوقائع اليوميات طابعا اشتبك فيه الواقعي التاريخي واليومي والمثيولوجي مع السردي، وبما يعزز رؤية الكاتب ومنهجيته وهو يستعيد ملامح مدينته بوصفها عالمه الراكز في لاوعيه، والموحية له بانشداد عميق لهواجس سحرية لم تفارق أغلب كتاباته السيرية والسردية..مدينة النجف كما يراها الكاتب تُعنى بالحياة مثلما هي الرمز الأيقوني لفكرة الموت في مقبرة وادي السلام المجاورة لضريح الامام علي بن أبي طالب، وصورة المقبرة تظل طاغية في مظاهرها وقبورها وخرائبها، وحتى سرائرها التطهيرية، والطبيعة الطقوسية التي ترافق تشييع الموتى( داخل الصحن يزيح الموتى الأحياء ويحصرونهم داخل الضريح، ثمة طابور من الجنائز يدور بسرعة غير اعتيادية ليفسح الطريق لطابور آخر في قافلة الموت التي لاتنقطع) ص92
روح المدينة تنبض بالحياة عبر حركة الاجتهاد عند المرجعيات الدينية، وفي حواضنها ومكتباتها ومنتدياتها الثقافية، ففيها الكثير من المخطوطات ونفائس الكتب، مثلما تضم الكثير من الروايات وقصص الحب والصراع، والتي وجد فيها الكاتب مجاله الأرحب ليشكّل شفرات وعيه المبكر( من مكتبة في دورة الصحن، صرت أستعير على التوالي سلسلة العبرات والنظرات للمنفلوطي مقابل عشرة فلوس لمدة أسبوع وأقرأها على التوالي: "في سبيل التاج" عن الكاتب الفرنسي فرانسو كوبيه، "تحت ظلال الزيزفون" عن رواية الفونس كار) ص119
وفي مبحث( المعممون والأفندية) يضعنا الكاتب أمام(الروح الخفية للنجف) إذ تجتمع فيها الشخصيات برمزيتها الدينية التي يمثلها المعممون (باعتبارهم مجتهدين حفظوا أسرار الدين من مصادرها القرآن والسنّة وأحاديث الأئمة المعصومين وتفسيراتها المدونة في الكتب) ص126 مع العديد من شخصيات( الأفندية) في دواوين بعض رجال الدين، حيث( ديوان الشيخ عبد الكريم الجزائري في النصف الثاني من الخمسينات وأيام جبهة الاتحاد الوطني محجا لقيادات الأحزاب من الحزب الديمقراطي زاره حسين جميل ومحمد حديد، ومن القوميين فائق السامرائي وصديق شنشل وغربي الحاج أحمد، ومن الشيوعيين عزيز شريف وعبد الوهاب محمود) ص238