اعلن في شهر ايار الماضي عن فوز الروائي الجزائري كمال داود بجائزة غونكور الادبية الفرنسية للعام 2015عن روايته (التحقيق مع ميرسو) . والكاتب يستوحي روايته من قصة البيركامو الشهيرة(الغريب).وكان الكاتب قد نال ايضا جائزة الفرانكوفونية للقارات الخمس ،فضلا ع
اعلن في شهر ايار الماضي عن فوز الروائي الجزائري كمال داود بجائزة غونكور الادبية الفرنسية للعام 2015عن روايته (التحقيق مع ميرسو) . والكاتب يستوحي روايته من قصة البيركامو الشهيرة(الغريب).
وكان الكاتب قد نال ايضا جائزة الفرانكوفونية للقارات الخمس ،فضلا عن جائزة فرانسوا مورياك.
هذه ترجمة لمقالة عن الرواية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز للكاتبة المغربية ليلى العلمي:
عندما كان عمري 15عاماً، كنت طالبة خجولة تعشق الكتب في الصف الثاني في مدرسة ثانوية في المغرب، كنت خجولة واعشق الكتب وكنا ندرس رواية ألبير كامو "الغريب"في المنهج الدراسي للادب الفرنسي . وأتذكر أنني كنت مفتونة بحقيقة أن القصة تدور احداثها في البلد المجاور الجزائر ولا زلت أتذكر السطر الأول من الرواية والذي لا يمحي من ذاكرتي : "توفيت امي اليوم." وأتذكر كيف كان يبدو لي بطلها الغريب ميرسو ، غير محرج وبارد الدم، و لا يظهر أي تأثر في جنازة والدته. ومازلت أتذكر كيف كان مؤلما حينما يصطدم القارئ بالمشهد الحاسم لقصة ميرسو، وهو يمشي على الشاطئ تحت أشعة الشمس في منتصف النهار، ويطلق النار على شخص عربي مجهول. وكيف ناقشنا في صفنا شخصية ميرسو، وشخصية والدته، ومعركته مع الكاهن، وناقشنا كذلك مفهومي الوجودية والعبث. وكنت طوال الوقت مضطرة لان اهدئ صوت بداخلي ظل متسائلا "لكن ماذا عن العربي؟"
أجاب عن هذا السؤال الكاتب الجزائري كمال داود في روايته الجديدة (التحقيق مع ميرسو)وهي رواية غنية ومبتكرة تنطلق من افتراضها أن عملية القتل التي ارتكبها ميرسو في عام 1942 كانت جريمة حقيقية، وقد حاز على الشهرة في جميع أنحاء العالم بعد نشره رواية حول هذا الموضوع. يعطي الكاتب اسما للشخص العربي هو - موسى – و ستكون لديه كذلك عائلة، ومنزل وقصة. ولكن مثل نظيره القرآني والتوراتي، (النبي موسى) لم يكن قادرا على التحدث عن نفسه، لذلك يتحدث أخوه هارون عوضا عنه. و هارون هو الذي يروي أحداث ذلك اليوم المشؤوم، والجملة الأولى: "لا تزال امي على قيد الحياة حتى اليوم ".فيها تماثل مع جملة رواية البيركامو الاولى.
تحظى عملية اعادة سرد النتاجات الادبية بشعبية واسعة دائما، لأنها توفر لنا فرصة لإلقاء نظرة على نفس القصة بعيون جديدة، ومن الامثلة على ذلك رواية جين سمايلز "ألف دونم" التي تعيد سرد مسرحية "الملك لير" في مزرعة في ولاية ايوا.ورواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" التي استعار بناءها من رواية جوزيف كونراد "قلب الظلام". ورواية "بحر سارجاسو الواسع" لجان ريس التي يكشف فيها قصة المرأة المجنونة في رواية شارلوت برونتي "جين اير". ولكي تكون اعادة السرد الادبي ناجحة، يجب ألا يقوم الكاتب وببساطة بجعل القصة القديمة تلبس ثيابا جديدة. كما يجب أن تكون القصة مقنعة جدا ومقبولة تماما بحيث لا نعد نفكر في القصة الأصلية على أنها هي الحقيقة، ولا نشكك فيها نوعا ما .
وهذا ما فعله كمال داود بالضبط. فهو لم يعيد رواية قصة "الغريب"، بصوت شخص من اهل البلد(الجزائر) بل يقدم وصفا مختلفا لعملية القتل ويجعل الجزائر أكثر من مجرد مسرح للأسئلة الوجودية التي يطرحها الروائي الفرنسي. بل يجعل الجزائر هي المسألة الوجودية.
تبدأ الرواية في حانة بوهران، وهو المكان الذي، تذهب اليه في ايامنا هذه "حينما ترغب في الهروب من زمنك، او ربك أو زوجتك." كما يقول هارون، وقد اصبح الان عجوزا سكيرا ، وهو يتحدث الى المحقق الذي يتولى التحقيق في الجريمة. على الرغم من ان هارون كان صبيا في السابعة من عمره وقت ارتكاب الجريمة، ويقول انه يتذكر بوضوح ذلك الصباح الصيفي المشمس. كان موسى يرتدي "بدلة عمل زرقاء وحذاءه العادي." وأنهى فنجانه المعتاد من القهوة بالحليب. وغادر المنزل، وقال لوالدته انه سيعود الى المنزل في وقت قبل المعتاد.
ولم يعد بعد ذلك
يصل الى علم هارون ووالدته أن موسى قد قتل على الشاطئ، لكنهم لم يستطيعوا استعادة جثته لأنه لم يكن يحمل اسما. ولم تكن هناك اية اشارة له في سجلات المحكمة أو في المقالات الصحفية التي كانت تغطي محاكمة ميرسول. وبعد انقضاء فترة الاربعين يوما، أعلنت وفاة موسى ، ونظمت له جنازة مع "قبر فارغ واقيمت على روحه صلاة الغائب." الأم،التي تملكها الحزن، استحوذ عليها هاجس السعي الى الانتقام. وبسبب عرائضها والتماساتها التي ثبت انها بلا جدوى، تحولت إلى رواية القصص. كان لديها "ألف قصة وقصة " على ما حدث. وفي كل ليلة، كانت تحكي واحدة مختلفة لابنها هارون، و كانت دائما تعطي لموسى دور البطل، "البطل المقدام القادم من الموت لكي يقتص من الظالمين."
كان تأثير ذلك على هارون مدمرا. وكونه قد نشأ في بلدة صغيرة هي حجوط - المعروفة سابقا باسم مارينغو،وهي المدينة التي عاشت فيها والدة ميرسو – كان يشعر بالعزلة وقد طوقه الحزن. صحيح ان والدته لا تزال على قيد الحياة، ولكن هذه الحقيقة جعلته "شخصا حياديا تماما." وكان استياؤه يتنامى داخله، لانه كان يشعر بعدم قدرته على تحقيق ما كانت والدته تصبو اليه بقوة: الانتقام.
لكن هارون يحصل على فرصته في ليلة من ليالي شهر تموز عام 1962، عندما يطيش عقله بسبب حرارة الجو .وتحت ضغط من والدته، يقوم بقتل مستوطن فرنسي يدعى جوزيف لاركوا. وبعد إلقاء القبض عليه، يعلم بسرعة أنه تم الحكم عليه لا لقتله رجلا فرنسيا، ولكن لقيامه بقتله بعد وقف إطلاق النار الذي اعلن نهاية حرب الاستقلال. وكما أن المدعي العام في رواية كامو كان يتساءل عن عدم بكاء ميرسو في جنازة والدته، فان أحد حراس السجن في رواية داود يتساءل لماذا لم يحمل هارون السلاح وينضم الى المقاومة. يقول هارون في الرواية "كنت أعرف أنني لم أكن هناك لارتكابي جريمة قتل ولكن لعدم قيامي بها في الوقت المناسب."
لم يكن هناك في ذهن هارون أبدا أدنى شك في أن الجزائر سوف تكسب استقلالها، ولكن ما لم يكن يتوقعه هو أنه سوف يخسر نفسه. انزلقت البلاد نحو الاقتتال الداخلي، و بدأ حكم العسكر. يصبح هارون غريبا في بلده، ويبدأ بكراهية ما أصبح عليه وطنه، فهو مليء الآن بـ "الملايين من امثال ميرسو"، وكان يحتقر الى حد بعيد رجال الدين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية، الذي كانوا يطاردوه في كل مكان، في محاولة لاعادته الى القطيع.
يقول هارون "أحيانا"،: "أتوق إلى وضع قائمة بالتفصيل لسيئاتي. إلى الجهر بصوت عال -. والصراخ عاليا أنني حر". وبهذه اللغة البسيطة والمباشرة، يكتب داود رسالته في الحب والتمرد واليأس من الجزائر. انها رسالة مليئة بالثنائيات - المتحدث والمستمع، الراوي ومن يروى له، القاتل والضحية، المؤلف والرمز،
عندما صدرت الرواية في الجزائر في عام 2013، قوبلت باستحسان واسع من النقاد ، ولكن وفقط بعد نجاحه الهائل في فرنسا العام الماضي (ترشح داود الى الدور النهائي لجائزة غونكور) فإن رجل دين يدعى عبد الفتاح حمداشي اقام دعوى ضد من اسماه "بالمرتد"، وطالب بأن يحاكم بتهمة التجديف. ظل داود ثابتا. واستمر في العيش والعمل في وهران، حيث يكتب لصحيفة لو كوتيديان دوران. ومن خلال القيام بذلك، فانه يبجل بكل احترام كلمات كاتب جزائري معروف آخر هو طاهر جاعوط، الذي قتل على يد الجماعات الإسلامية المسلحة أثناء الحرب الأهلية في الجزائر في تسعينات القرن العشرين: "إذا تكلمت، ستموت. وإذا كنت لا تتكلم، ستموت. لذلك، تكلم ومت."