أميلُ إلى القصيدة المفكرة. كتابُ "القلب المفكر" الذي أحاول إنجازه، متابعةٌ متأملةٌ في طبيعةِ الشاعر، وفاعليتِه الإبداعية. أقرأُ القصيدة التي تنصرف للغناء وحده، والقصيدةَ التي تنصرف للعواطف وحدها، أو حتى للغة وحدها، دون فرط حماس. ولكني أقرأ القصيدةَ المفكرة وكأني أشترك في كتابتها. وأكتبُ القصيدةَ المفكرة وكأنها تصدرُ عن أكثر من شاعر. وحين أكتب قصيدة فأنا أفكر ضمناً، ولكن لن يكون تفكيري مجرداً، لأن التجريد يقتصر على الرياضيات والمنطق. إنما تفكيري حي، يصدر عن كياني الجسدي والروحي.
"فقط في الشعر الغنائي الخالص والشعر الملحمي الخالص"، يكتب أرِك هيلر في كتابه "العقل غير الموروث"، "قد تكون الأفكار مهملةً، لأنها غيرُ وثيقة الصلة بالإدراك الجمالي أو النقدي. إذا كانت أفكار دانتي هي أفكار توما الاكويني، فستظل أفكاراً لدانتي: لا بسبب فضيلةِ الاستيعاب والتطابقِ الخيالي فقط، وبالتأكيد ليس بفعل توظيف "المعادل العاطفي". إنها أفكار دانتي، التي أعاد ولادتها في داخله ــــ شعرياً. لأن الشعرَ ليس رداءً يُلبس حول الفكر، ولا هو انعكاسه الجمالي الظليل. الشعر ضربٌ معيّنٌ من الفكر، مرتابٌ بأمره لأنه يحيا زمناً يفصل الفكرَ عن الشعر بصورة قاطعة. إذا ما حدث هذا، فإن مشكلةَ الفكر والشعر تأخذ مظهراً جديداً تماماً. فسعيدٌ هو الشاعر الذي تقتصر وظيفتُه على تعلّم الطريقة التي يحصل فيها على الكلماتِ الأصلحِ من أجل الأشياء التي يرغب في قولها. إنه الشاعر الذي يفكر داخلَ فكر عصره، كما فكر دانتي مع أفكار القديس توما. والشاعر، فكّرَ في إطار فكر عصره أم لم يفكر، لا يعتمد بالضرورة على عمق وجودة هذا الفكر، ولا على تماسكه في منظومة أفكاره. السؤال هو إذا ما كان هذا الفكر يخرج من مستوى الخبرة الروحية ذاتها التي يتشكل فيها الشعر، وإذا ما كان مرتبطاً بذلك الخزين من اليقين الثقافي الأساسي الذي لا يسحق الدافع الشعري تحت وطأته. هذه الخطورة تكون ممكنة حين يضطر الشاعر، بفعل فقر المرحلة الروحي، إلى المجاهدة من أجل التعبير الشعري عن الخبرات التي لم يُسمع ولم يُفكر بها. حينها يتوجب عليه أن يقوم بمهمة التفكير كلها بنفسه، لأن الخبرات، التي يجد نفسه كشاعر ملزماً بإيجاد فكر شعري ملائم لها، لم تصبح بعد واضحة...".
واحد من أجمل وأعمق الكتب التي قرأتها في غمار هذا الموضوع هو "ثلاثة شعراء فلاسفة" للمفكر الأميركي "سانتيانا". فهو يدرس "لوكريتيوس" من مطلع المرحلة الرومانية، و"دانتي" من مطلع مرحلة النهضة، و"كوته" من مطلع المرحلة الرومانتيكية. وهؤلاء شعراء أولاً، ولكنهم فلاسفة عبر حمّى الشعر الحية، لأن قصيدتَهم تفكر بعمق. تخرجُ من قلب مفكر، لا من عقل تجريدي النزعة.
كان "لوكريتيوس"، الذي ولد قبل قرن من ميلاد المسيح، أبيقورياً. وكتب قصيدته الطويلة "في طبيعة الأشياء" (7400 بيت من الشعر) من وحي الفلسفة الأبيقورية: كان يرى الأشياء في الكون ذراتٍ لا حصر لها، تتحركُ عشوائياً عبر الفضاء. تصطدم ببعض، تترابط معاً، تشكل هياكل معقدة، ثم تنفرط، في عملية لا تنتهي من الخلق والتدمير. ما من معمار إلهي. الطبيعة تخوض تجاربها دون توقف. نحن خرجنا من البذور السماوية ذاتها. من الأب نفسه، ومن أمنا الأرض التي تلقت منه قطرات الماء، فعجّت بالذرية المشرقة من جنس بشري وحيوان وطبيعة. عبر خوض الطبيعة في تجاربها يولد الانسان ويموت، شأن الأشياء. ولذلك تجد الأبيقورية خلاصها في المتعة، والتحرر من قلق الموت: "عندما تنفصل الكتلة الهامدة عن العقل،/ وتتحرر من مشاعر الحزن والألم،/ لن نشعر بالموت، لأننا لن نكون."
مع لوكريتيوس عَبر "في طبيعة الأشياء"، دانتي عبر "الكوميديا الإلهية"، وكوته عبر "فاوست"، تكون قد قطعت شوطاً بالغ العمق مع القصيدة المفكرة، والقلب المفكر. قاعدة إسمنتية لفهم هذا المدى الذي أغناه أهم شعراء العالم الكبار فيما بعد.
القلب المفكر
[post-views]
نشر في: 21 يونيو, 2015: 09:01 م