TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الصورة: المرئيّ والمكتوب

الصورة: المرئيّ والمكتوب

نشر في: 26 يونيو, 2015: 09:01 م

في عالمنا المتأجج بحرب الصورة، لنعد للمرة الثالثة للإشكالية. في أحيان كثيرة نحن لا نرى الصورة وحدها، ونقرأ جوارها تعليقاتٍ وشروحاً، أو نصاً مصاحِباً، كما في صور الصحافة والملصقات الإعلانية. هذا النص المكتوب يجاور النص المرئيّ، ويلعب دوراً يسميه رولان بارت بالإرساء إذا دَعَمَ معنى واحداً يتيماً للصورة. لكن النص (الشرح) يمكن أن يُغيَّر جملةً وتفصيلاً التأويل. خاصة عندما يقول ما لا تقوله الصورة، ويسميه بارت المناوبة. إن معنى الصورة عُرضة للتحوّل بسبب النص المكتوب. عندما أدْرجُ تعليقاً مغايراً جوار البورتريه نفسه لشخص من الأشخاص، وليكن بورتريه فتاة جميلة مضاءة نصفياً. وإذا ما كتبتُ بأن "النشوة الرومانسية تقود إلى أحلامِ يقظةٍ" فأنني سأقرأ صورة الفتاة ضمن منطق النشوة، أما إذا علّقتُ بما معناه أن "الانفصام في الشخصية له أعراض معروفة" فإنني سأدفع لقراءةٍ مختلفة تماماً للصورة ذاتها، للمرئيّ نفسه. ولقد حاولنا أن نشرح ذلك بالنماذج في عملنا (الصورة بوصفها بلاغة)، ونودّ العودة للموضوع الآن بسبب وطأة الاستخدام المريب الحالي للصورة والنص المُتجاوِرَين.
يُفترَض أن النص المكتوب يسمح بالتغلُّب على التشتت الناجم عن ثلاثة: دلالة الصورة، ودلالة التعليق وطبيعة الرسالة اللغوية، ويُفترض أن وظيفة الإرساء (تثبيت المعنى الواحد) ليست سوى توجيه قراءة الصورة بالاتجاه المطلوب. ويُقترح هنا بأن اللغة لا تسمح فقط بتجنُّب الأخطاء الممكنة عند التعرّف على المطلوب، لكنها تشكل نوعاً من ماسكةٍ وحاجزٍ يمنع المعاني الثانوية (النفسية والإسقاطية والمتداعية إلى الذهن) من التزايد، والانفراط نحو مناطق فردية خاصة، أو نحو قيم غير محبّذة. وإذا كانت الصورة بطبيعتها الداخلية تسمح بالتأويلات المُتفارِقة والمعاني الثانوية، فإن النص عبر صرامته وحدوده في التمييز، يُمارس وظيفة مُناهِضة لذاك الالتباس البَصَرِيّ.
من المعروف أن دور النص لا يقف عند حدود التوصيل وتسليم المعنى للمتلقي، لأن وظيفته الأخرى، المناوبة، إنما هي توفير معنى إضافيّ، وتزويد القارئ بمعلومات لا تنقلها الصورة (تحديد الأماكن، والأشخاص، طبيعة المنتجات التجارية، ...الخ).
بعد رحيل رولان بارت، ظل العديد من المؤلفين يقتصرون على هذا المنظور الأحاديّ، معتقدين أن التعليق اللغويّ يَحْضر لهدف توضيح أو إكمال الصورة. وقد يَصْدق الأمر إلى حد كبير في سياق التصوير الصحفيّ والتعليق عليه، لكن علاقة (النص / الصورة)، كما يرى المتخصّصون المعاصرون، تتطلب إجراء تعديل جذريّ في حقل الإشهارات والإعلانات الثابتة أو المتحركة.
سؤالهم الجوهريّ هو: من يستطيع البرهان بالفعل، عند الحديث عن علاقة (النص / الصورة) بأن النص هو الذي يلعب دائماً دور الدليل الهادي للمُستخدَم؟. ويُشار في هذا السياق إلى أن النص لا يقلّ عن الصورة بطابعه (مُتعدّد المعاني)، وإمكانية أن يكون مثقلاً بالمجازات والاستعارات والكنايات التي لا تؤدّي بالضرورة، أو بتاتاً، إلى تسليم القارئ معنى صارماً واضحاً، بل أن هذا النصّ، إذا شئنا، لا يقلّ التباساً عن التباسات الصورة، فللكلمات تاريخ واشتقاق وفُوَيْرقات وظلال وشعريات، ولها وضعيات مخصوصة، تارة مقدسة، وتارة وجدانية، وثالثة نفسية لا واعية، وأخرى سحرية، وتتضمُّن بعضها شحنات دينية أو إشارات أيروتيكية مُضْمَرة.
لدينا في هذا الصدد نماذج كثيرة من الملصقات والإعلانات اليومية التي تُقدَّم بالأحرى نصّاً مراوغاً مستحيل التفسير من دون استخدام الصورة. إنها الصورة التي تُثبِّت معنى النص، خلاف ما اقترح رولان بارت. النماذج التي تمشي بهذا الاتجاه تُوْضِح أن وظائف الإرساء والمناوبة التي اقترحها رولان بارت باتجاه واحد، يمكن أن تجري بسهولة في كلا الاتجاهين.
العلاقة إذن معقَّدة بين جماليتين: النص من جهة، والصورة من جهة أخرى، تنجم عنهما (جمالية جديدة) هي مَلْغَم خاص مكوَّن من نص وصورة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram