حضرت تجمعا طيبا لساسة ومشرعين وناشطين واكاديميين يناقش مسودة جديدة لقانون الاحزاب جرى تدوينها في رئاسة الجمهورية، ومما يثير الاطمئنان اليها وجود شخصيات جيدة في لجنة اعدادها منهم النائب السابق والقانوني امير الكناني، وهو رجل معروف بالحكمة والتعقل وله مواقف مشهودة في الوقوف بوجه سياسة الارتجال في عهد نوري المالكي.
ومن الطبيعي ان يحتدم النقاش حول هذا الموضوع، فهو حاسم لدرجة اننا لا يمكن ان نمتلك دولة بدون تنظيم قواعد العمل الحزبي. وبالمقابل فان البعض يخشى ان يكون تنظيم العمل ذريعة لمحاصرة النشاط السياسي ومتطلباته حتى ان بعضهم علق على مسودة سابقة في هذا الاطار بالقول، انها لو اقرت في البرلمان فستضطر الاحزاب للانتقال من النشاط العلني الى النشاط السري!
وابرز النقاط التي اختلف حولها هي الجهة التي تتولى تنظيم العمل الحزبي، فهناك من كان يقترح وزارة الداخلية او العدل كنوري المالكي، بينما ذكر خصومه ان هذا سيجعل الاحزاب المنافسة تحت رحمة رئيس الحكومة والوزير. لذلك حاولت نسخة امير الكناني ان تربطها بدائرة تستحدث في مفوضية الانتخابات وتكون مختصة بتسجيل الاحزاب ومتابعة انطباق عملها مع القانون.
كما ان النقطة الاخرى المثيرة للجدل هي تمويل الدولة للاحزاب، فكيف سيحصل ذلك وكيف نحدد التفاصيل الحساسة لقصة مال وسياسة؟ وهل ندفع للحزب الفائز ام الخاسر؟
لكن ما كان غائبا عن الجدل هذا، هو نقص يصيب معظم سجالاتنا السياسية، واعني به البحث التاريخي. ففي البلدان نصف المتقدمة، يقوم الباحثون والاكاديميون بتناول مشاريع القوانين بالنقاش عبر الصحف والمجلات التخصصية والندوات، بحيث تكون بين يدي المعنيين مقارنات تاريخية وافية تسلط الضوء على ما قامت به المانيا واميركا وماليزيا مثلا، في التعامل مع تنظيم العمل الحزبي او اي مشكلة سياسية بهذا الحجم. اما الطريقة العراقية في النقاش فهي في الغالب، "تبدأ من الصفر" وتحاول ان تقوم بالتجريب، دونما استيعاب بما يكفي لتجارب ناجحة اقليميا ودوليا.
والامر لا يقتصر على مناقشات قانون الاحزاب، بل اننا نتصور ان الاحتراب الاهلي والانقسام الدموي، مشكلة خاصة بالعراق، ولذلك نحصر انفسنا في نقاش يكاد يكون عقيما حول المتسبب والبادئ وما الى ذلك. بينما لم نبذل حتى الان جهدا كافيا للاطلاع على النزاعات والحروب الداخلية التي شهدتها دول مهمة خلال اخر ثلاث قرون، كي نحاول فهم القواعد التي تتحكم باندلاع النزاعات وانتهائها، ونكون على بينة من السيناريوهات الممكنة في هذا المجال. وقل مثل هذا عن محاولتنا امتلاك قانون مطبوعات صحيح وناضج ينظم وضع الصحافة والاعلام، الفوضوي ولاشك، والذي يلجأ القضاة لتنظيمه، الى قوانين عتيقة لا تمثل مرحلة الانفتاح المفترض الحالية.
ان العلاقة بين الوسط الاكاديمي المتخصص، والوسط السياسي التشريعي او التنفيذي الاعلى، هي احد مفاتيح الانتقال الى مرحلة التعامل الناضج مع الازمات. وطالما بقينا بدون استشارة وافية لكا يقوله الدرس العلمي والتاريخي، فاننا سنكرر ما حصل خلال اخر ١٢ عاما من المراوحة في المكان نفسه. ومع الاسف فان امتلاك مركز ابحاث يتسح هذه المتطلبات، هو مهمة لم يتصد لها البرلمان ولا الحكومة ولا الجامعات، والامر لا يقتصر على تقديم استشارة سياسية او قانونية، بل لايمكن ان تزدهر الاعمال والمصالح الاخرى في التنمية والبناء، دون ان تزدهر الافكار في الجامعات ضمن الاختصاصات المعنية، والامر يحتاج بالضرورة، انفتاحا على الخبرات الاجنبية التي اكتلكت من التجارب ما يساعدنا في الفهم بشكل حاسم، وهي تجارب تخبرنا ان عدم التواصل مع الاجانب، وتجاهل تنوع التجربة الانسانية، هو امر قاد الامم والممالك الى الانكفاء والتقوقع ثم الخراب، نتيجة فساد الافكار ونقص المراجعة والتصحيح الذاتيين.
غياب الجامعات عن عالم السياسة والادارة
[post-views]
نشر في: 27 يونيو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
قاسم عبد الله
بارك الله فيكم يااستاذ سرمد ، حفظكم الله ....