كثيراً ما يُواجه الكتّاب المنفيون بالسؤال عن سبب مغادرتهم لبلدانهم، هل فعلوا ذلك مجبرين أم طواعية، وإذا كان خروجهم لا يقود بالنتيجة إلى فقدان ذاكرتهم ونسيانهم لكل تلك الأماكن الحميمية التي وُلدوا، ترعرعوا وعاشوا فيها سنوات طوال، خاصة فيما يتعلق بأماكن طفولتهم، الأمر الذي سيجعل كتاباتهم تفقد حرارة وألفة أولئك الذين ما زالوا يعيشون داخل البلدان أو الأوطان التي تركوها وراءهم، مثلما تفقد مواقفهم القدر نفسه من مصداقيتها؟ سؤال مألوف سمعه العديدون الذين غادروا إلى المنفى، لا يهم التاريخ الذي مرّ على منفاهم، البعض يلقيه بحسن نية، والبعض الآخر (وهم الأكثرية) يطرحه بخبث. ولا أبالغ القول إذا ما ذكرت هنا، بأنه منذ بداية قرننا الماضي بالذات وحتى الآن ولم يمر على كاتب ما، مثل هذا السؤال، بغض النظر عن جنسية الكاتب ودوافع خروجه. وأشدد على بداية القرن الماضي، لأن القرن هذا بدأ بأول حرب كونية بشعة، أُطلق عليها الحرب العالمية الأولى، التي إذا لم تنه ببعض الكتّاب والفنانين إلى القبر، فإنها قادتهم إلى الوقوع في وحل الأيديولوجية والزعيق بالدعوات للحرب والعنصرية باسم الوطنية والدفاع عن الوطن وغيرها من خزعبلات تجار الحروب والسياسة، الخروج عنها في كل الأحوال لم يخل من المخاطرة، إذا لم يقد الخارجين عن التغريد مع السرب إلى السجن أو القتل، أو على الأقل إلى النفي، وحتى في منفاهم لن ينجو هؤلاء، فستظل تطاردهم لعنات خدم الديكتاتورية ولاعقي مؤخرة السلطان والمعتاشين على فتاته، من سقط في الوحل يريد أن يسقط الجميع مثله، من لعق جزمة جنرال أو مؤخرة سلطان، سينظر بعين الحسد ويظل يشتم كل من لم يوسخ لسانه بمؤخرة السلطان مثله، منذ أن وُجد الإبداع وُجد المنفى، الإبداع دائماً متحالف مع غائب، دائماً ضد مَن بيده السلطة، نظرة إلى التاريخ، إلى قرون مضت، سترينا، كم هو عدد المبدعين الذين أُتهموا بالخيانة بسبب مغادرتهم لأوطانهم، منذ دانتي أليغيري مروراً بجوزيف كونراد وجيمس جويس وغابرييل غارسيا ماركيز وميلان كونديرا وبيرغاس يوسا.
لكن بعيداً عن ذلك، نعود إلى السؤال، أقول من غير المهم النيات التي تختفي وراء السؤال، إلا أنه يظل سؤالاً وجودياً مشروعاً، خاصة إذا جردناه من كل نية أو حكم مسبق، أنه السؤال الذي يواجه الكتاب عموماً حقيقة ومهما كانت التخريجات التي يدعي واضعو الأسئلة ذاتهم التوصل إليها، الذين هم عادة مهتمون بالسياسة أكثر منها بالأدب، فإنهم في النهاية لا ينظرون للكاتب من خلال ما يكتبه، إنما يقيمونه من خلال المكان الذي يعيش فيه، أو من خلال موقع "غرفته". تلك النظرة الضيقة تقود البعض الذين ينظرون نظرة مريبة للكاتب الذين يعيش خارج بلاده أن ينتهوا إلى فكرة ساذجة تقول: من الصعب على الكتاب المنفيين الكتابة عن "أوطانــهم" بسبب ما معناه معضلة استيعاب الكاتب الروائي للحدث الروائي التاريخي التي تحتاج بين ما تحتاج إليه إلى فترة زمنية للنضوج معرفياً ونفسياً، لهذا السبب ولغيره من الأسباب الساذجة ربما من الأفضل للكتاب أن يكتفوا حاضراً بالكتابة عن المنفى. يغيب عن هؤلاء السؤال الأكثر أهمية: هل الخروج إلى المنفى يعني بالضرورة توقف ذاكرة ومخيلة الكاتب في الكتابة عن "هناك" وعليه فقط الكتابة عن المنفى؟ ببساطة أجيب وبدون حرج: كلا. أولاً لان الكتابة الجميلة هي كتابة عن الإنسان المنفي حتى وإن كان الكاتب يعيش في ما يُطلق عليه "الوطن"، الذي هو أصلاً اصطلاح سياسي أكثر منه إبداعي. ففي النهاية وطن الكاتب هو اللغة التي يكتب بها، وبيته هو العالم الذي يصنعه من عمله، مثلما هو وطن الرحالة، يكون حيث تطأ قدماه، وليست هناك علاقة قوية بين المكان الذي أجلس فيه وأكتب والمخيلة الإبداعية التي لا تعرف مكاناً معيناً وحدوداً .... الكتابة الإبداعية هي نص مفتوح بحدود الأفق ... بحدود المنفى، بهذا الشكل يتحول النص الذي هو المنفى الذي يلجأ إليه الكاتب من غير المهم أينما يكون، إلى وطنه بديل ذلك الوطن الذي تركه خارج الغرفة.
محاولة في تعريف المنفى
[post-views]
نشر في: 30 يونيو, 2015: 09:01 م