النص القصير المترجم في السطور أدناه هو ترجمة منتخبة لمقاطع محددة من مقالة نشرتها ( كلير كارليسل ) في صحيفة الغارديان البريطانية في 16 كانون الأول 2013 في سياق سلسلة تعرّف بالفيلسوف البريطاني الكبير وتتناول في كل مقالة محوراً من المحاور التي كتب فيها
النص القصير المترجم في السطور أدناه هو ترجمة منتخبة لمقاطع محددة من مقالة نشرتها ( كلير كارليسل ) في صحيفة الغارديان البريطانية في 16 كانون الأول 2013 في سياق سلسلة تعرّف بالفيلسوف البريطاني الكبير وتتناول في كل مقالة محوراً من المحاور التي كتب فيها خلال حياته التي قاربت القرن . ولا شك انه كتب كثيراً في الفلسفة السياسية وتاثيراتها في التشكّل الفردي والاجتماعي ، كما كتب في التعارض المتوقّع بين النزعة الفردانية - التي هي واحدة من أهم سمات النظم الليبرالية – وبين النزعة الاستحواذية للنظم السياسية والاجتماعية حتى في إطار الدولة الليبرالية ، ثم ان هناك وجها آخر يتعالق مع هذه الاشكالية وينتمي إلى فضاء الفلسفة الأخلاقية : ذاك هو مرجعية الأخلاقيات من جهة ، وضرورة إعادة تكييف نظرتنا إلى المفهومات الحاكمة في حياتنا ككائنات بشرية .
إن قراءتنا المتفحّصة للنص أدناه ستجعلنا نخرج بفكرتين أساسيتين وغاية في الأهمية : واحدة في مجال الفلسفة السياسية ، و الأخرى في مجال الفلسفة الأخلاقية ، وهاتان الفكرتان شكّلتا دافعاً قوياً لي للترجمة والتعليق على هذا النص الثري :
• النظم السياسية والدينية والاجتماعية تميل على الدوام إلى فرض مهيمناتها حتى في ظل نظم الحكم الليبرالية ، ولا بد دوماً من إعادة النظر في الضوابط التي تحدّ من هذه الهيمنة رغم أننا نعي أن هذه النظم تمتلك القدرة البالغة على المناورة واستحداث أنماط جديدة من الهيمنة التي تستعصي على أية ضوابط أو إجراءات قانونية أو حتى أعراف مقبولة .
• لا ينبغي للأخلاقيات الفردية أن تؤسس على أية قواعد لاهوتية لأنها ستكون عرضة للملاعبة والتلوّن بحسب مقتضى الأحوال والاهواء ، و أن الخبرة البشرية غير الملوّثة تعلّمنا أن الاخلاقيات ينبغي أن تؤسس على قناعات فردية ، أو كما كتبت أيريس مردوخ في ضرورة أن تتأسس نظم الأخلاقيات على قواعد ميتافيزيقية لكي تكون فعّالة و مؤثّرة في الحياة بدل الارتماء في أحضان مواضعات دينية أو فقهية متواترة ليست لها قوة الدافع الشخصي الأصيل . أذكر في هذه السياق أنني قرأت مرة للعالم الفلكي البريطاني ( فريد هويل ) في كتابه الموسوم ( عشرة أوجه للكون ) أنه كتب أن البريطانيين والإيرلنديين إذا ما أرادوا وضع حد للمأساة الإيرلندية - التي كانت قائمة وقتذاك – فينبغي لهم اولاً أن يضعوا كل رجال الدين البروتستانت والكاثوليك لسنوات محددة في الاحتجاز !!! ،،، وبعدها سنرى بداية الحل للمعضلة الإيرلندية ، ويمضي معلقاً على هذا فيقول : إن هؤلاء يعملون على تشويش الجمهور وإشاعة الأفكار الدوغمائية بينهم و دفعهم لنبذ الطرف الآخر وإقصائه بلا تدقيق ولمجرّد إرضاء غرورهم ومصالحهم المؤسسة على مواضعات لاهوتية .
لطفية الدليمي
يعرف عن راسل انتقاده الصريح للتديّن التقليدي ، ويعزى انتقاده هذا جزئياً إلى توجّسه من المنظومة الأخلاقية القامعة التي ينطوي عليها كل شكل من أشكال التديّن التقليدي رغم أن البعض سيجادل حتماً أن الثقافة المسيحية التي اختبرها راسل في حياته لم تكن لتخلو من توجّهات أخلاقية . ولكننا نلمح حتماً الإحساس بالنقد الذي يضمره راسل للتديّن التقليدي عندما نتحسس الجانب الإشكالي الذي انطوت عليه حياة راسل الأخلاقية في نظر معاصريه.
دافع راسل بقوة وثبات عن الحرية الفردية في موضوعات : المنظومة الأخلاقية الشخصية ، والقناعات العقلية ، والمعتقدات الدينية ، ولم يكن يرى التهديد الأوحد لهذه الموضوعات قادماً من جهة الأخلاق الفكتورية وتراثها الممتد في القرن العشرين ، بل ان راسل رأى في البيروقراطية المعاصرة خطراً أشد وأكثر تهديداً . ويكتب راسل في سلسلة مقالات بعنوان "السلطة و الفرد Authority and the Individual " نشرها عام 1949 : "في يومنا هذا ثمة ميل جارف نحو تعظيم السلطة ، وان إهتماماً ضئيلاً بات يوجّه للمبادرة الفردية . إن الافراد الممسكين بزمام المؤسسات الضخمة باتوا يمتلكون نظرة موغلة في التجريد و تناسوا تماماً ما الذي يعنيه كوننا كائنات بشرية حقيقية وكلّ ما يشغلهم بات ينحصر في مسألة واحدة : أن يجعلوا الافراد يتواءمون مع النظم الحاكمة بدلاً من ان يجعلوا تلك النظم تتواءم مع متطلبات الافراد " . إن كل فرد يعمل في واحدة من هذه المؤسسات التي وصفها راسل بكونها "ضخمة" - الجامعة مثلاً - يعلم تماماً ما الذي يرمي إليه الفيلسوف البريطاني من وراء حديثه ، غير أن نظرتنا ستكون غارقة في التبسيط المخل لو ألقينا اللوم كلّه على عاتق هؤلاء الممسكين بزمام هذه المؤسسات سواء أكانوا رجالاً أو نساءً كما لو أنهم كانوا هم من يخلّقون أو يوجّهون هذه النظم وليسوا بذاتهم جزءا من بنيتها ، وهذا بالضبط ما يساهم في تعزيز نظرة راسل التي ترى أن "آليات الحضارة المعاصرة تنتج نوعاً من فقدان التلقائية الجميلة لدى الكائنات البشرية".
يشير راسل فيما يختص بالمنظومة الأخلاقية الشخصية إلى مسألة مثيرة نلمح فيها ان الواجب الأخلاقي قد يدفعنا احياناً إلى الإتيان بافعال قد ينظر لها على أنها لا أخلاقياتية في منظور المفردات الاجتماعية المتداولة ، ويمضي راسل إلى مديات أبعد لبيان مقاصده في هذا الصدد فيتناول المفهومين الاجتماعيين عن "الله" و "الضمير" و يشدّد على انهما لا ينبغي أن يتأسّسا على أية قناعة لاهوتية ، فيكتب قائلاً : " إن من الخطر الفادح أن نسمح للسياسة أو أي شكل من أشكال الالتزام الاجتماعي أن تهيمن كلية على تشكيل ما يرقى أن يكون (امتيازاً) شخصياً لكل فرد " . إن ما يقترحه راسل من وراء هذا هو أن فكرة حيازة ( ضمير ) شخصي و الإصغاء إلى ما يمليه تدفع بالفرد إلى التحرر من الضغوطات الاجتماعية المترتّبة على المحددات الأخلاقية التقليدية وكأنه كان يقتفي صدى كلمات كيركيغارد الذي دعا بوضوح حاسم إلى إعلاء شأن الضمير الفردي و جعله في موقع أسمى من مجرد تأدية الفرائض التقليدية التي قد تستخدم في شرعنة أفعال العنف الإرهابي أو السلوكيات المضللة.