TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الصورة أم موت الصورة؟

الصورة أم موت الصورة؟

نشر في: 10 يوليو, 2015: 09:01 م

(1-2)
ما الذي تغيِّره وسائط التواصل التكنولوجية الراهنة في علاقتنا بالصورة، بل ما هو مقام الفن برمته في هذه الوسائط؟. اتساع الموضوع، وحديثنا المتواصل عن الصورة منذ شهر تقريباً، يدفعنا إلى التوقف أمام الصورة وحدها، من بين جميع أنماط الفن.
فلنقل منذ البدء إننا نتحدث بالأحرى عن (فنون الوسائط) المُسْتحدَثة وليس عن (وسائط التواصُل) المُسْتحدَثة، عن فنون بالأحرى وليس قنوات اتصال، إذ لم تعد الصورة الآن إلا فناً من فنون الوسائط الإلكترونية. من السهل فهم ذلك، لكن من الضروريّ التشديد على فكرة مفهوم الشبكة أو الشبكة العنكبوتية التي صارت حاملاً للصورة، بل الخلق الجماليّ، وفيها تشتغل الصورة وتعبّر عن جمالياتها الجديدة. بمعنى آخر: إذا كان القماش فيما سبق حامل الصورة المرسومة، وورق الطباعة حامل الصورة الفوتوغرافية، فإن شاشة اليوم هي حامل الصورة عن جدارة.
لم تغيِّر الشبكة هذه من طبيعة علاقتنا بالصورة فحسب، بل غيّرت مفهوم الصورة نفسها عبر عملية (تفاعلية) حيوية وجسدية مثيرة بيننا وبين الصور المعروضة كل لحظة أمام شاشاتنا، ونحن (نلعب) بالصورة، نُكبّرها ونُصغّرها، نقصّها ونُحوّرها بل نصنعها صناعة.
مما يفكّك المفهوم القديم للصورة، في سياقٍ من التشويق والإثارة، أن هذه الصورة لا تَحْضر، مُفْردةً وحيدةً مؤطّرةً، في فنون الوسائط، فهذه الوسائط تسعى لإدماجها في الأشكال التقليدية من الفنون، مثل الرسم والنحت والموسيقى والفن الحديث وجميع الأنواع الفنية الممكنة، وتفترض أن إدماجاً كهذا باستطاعته خلق عالم افتراضيّ مُقْنِع، ذلك أن الفنون الوسائطية تقوم على المبدأ الذي يحكم العالم الرقمي (الديجتال) من الداخل: إشراك الحواس كلها إذا أمكن، البصر والسمع والشمّ والذوق واللمس. المتيسر منها بالفعل لغالبية الجمهور اليوم هي حواس البصر والسمع واللمس، والأخير عبر الماوس. لم تعد الفنون المختلفة منطوية في حدود ثابتة، وهي لا تتطور في الفن الرقميّ بمعزل عن بعضها، لذا ثمة خلق جديد لأنساق تعبيرية تتشكل منها كلها، وتَخْرج (للمتلقي) في لحظة مُتزامِنة. لعلنا نستطيع الحديث عن التزامُن الجماليّ بين مستويات متعدّدة بصفته معياراً ممكناً للصورة في عالمنا الر اهن.
مهمة الصورة الرقمية لم تعد فقط نقل العالم المرئيّ، توثيقه أو الاحتفاء به، لم تعد مكتفية بوظيفة تمثيل الواقع التقليدية، لأنها تقوم بمهمة خلق واقع جديد تماماً، يُسمّى الواقع الافتراضيّ. لم يعد التمييز بين الواقع والصورة بكافٍ. ثمة التباس بين الواقع المرئيّ الموضوعي، وواقع آخر يبدو ممكناً جداً رغم أنه ليس موجوداً موضوعياً. من هنا قدرة عدد كبير من المصوّرين الرقميين على خلق عوالم متخيّلة تشابه وتتخطى عوالم الرسّامين السورياليين فيما مضى.
نتحدّث لهذا السبب عن قطيعة بين الواقع والصورة، رغم أن الأخيرة تقدّم واقعاً مقنعاً، ومكتفياً بجمالياته وقادراً أيضاً على نقل رسالة، لو شاء مبدعها.
هل هذه إشكالية إضافية لمفهوم الصورة الإشكاليّ بالأساس؟. هل نحن أمام موت الصورة التقليدية، النسخة المُطابِقة للواقع بدرجات متفاوتة؟.
شخصياً، لم أتقبّل قط فكرة الموت في الفن التي انطلقت من موت المؤلف، ثم موت القارئ وموت الشعر.. الخ. أتقبل أفكار الانبعاث والتطوّر والتغيُّر والتراكب والتراكم.
تأخذ الصورة لنفسها مساراً جديداً في زماننا، بحكم التقنيات الحديثة التي لا عودة عنها كما يعلم الجميع: العالم الرقميّ، استخدامات الديجتال في كل حقل، الكومبيوتر الشخصيّ، برمجيات معالجة الصورة، وكذلك تقنيات التقاطها، وهذه كلها تخلق حسّاسية جديدة، مثلما فعل على الدوام كلّ تراكُم معرفيّ، ترك خلفه أسلافاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. مثنى مكي

    اعاد العالم الرقمي صياغة الفنون والآداب الانسانية بطريقة تشرك المتلقي بالعملية الابداعية احيانا كما في الادب التفاعلي. و أؤيد رأي الكاتب بعدم (تقبّل) فكرة الموت في الفن التي انطلقت من موت المؤلف، ثم موت القارئ وموت الشعر.. الخ. أتقبل أفكار الانبعاث والت

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram